وكيف رأيت الدَّهر؟.
فقال : أمّا الدَّهر فرأيت ليلاً يشبه ليلاً ، ونهاراً يشبه نهاراً ، ومولوداً يولد ، وميتا يموت ، ولم أدرك أهل زمان إلّا وهم يذمون زمانهم ، وأدركت من قد عاش ألف سنّة فحدَّثني عمّن كان قبله قد عاش ألفي سنة (١).
وأمّا ما سمعت فإنّه حدّثني ملك من ملوك حمير أنَّ بعض الملوك التبايعة (٢) ممّن قد دانت له البلاد ، وكان يقال له : ذو سرح كان أعطى الملك في عنفوان شبابه ، وكان حسن السيرة في أهل مملكته ، سخيافيهم مطاعاً فملكهم سبعمائة سنة ، وكان كثيراً يخرج في خاصّته إلى الصيد والنزهة ، فخرج يوماً في بعض متنزِّهه فأتى على حيّتين إحديهما بيضاء كأنّها سبيكة فضة والاخرى سوداء كأنّها حُمَمَة (٣) وهما تقتتلان وقد غلبت السوداء على البيضاء ، فكادت تأتي على نفسها ، فأمر الملك بالسوداء فقتلت ، وأمر بالبيضاء فاحتملت حتّى انتهى بها إلى عين من ماء نقيٍّ عليها شجرة فأمر فصبَّ الماء عليها وسقيت حتّى رجعت إليها نفسها ، فأفاقت فخلّي سبيلها فانسابت الحيّة فمضت لسبيلها ، ومكث الملك يومئذ في متصيده ونزهته فلمّا أمسى رجع إلى منزله وجلس على سريره في موضع لا يصل إليه حاجب ولا أحدٌ ، فبينا هو كذلك إذ رآى شابّاً أخذ بعضادتي الباب وبه من الشباب والجمال شيءٌ لا يوصف ، فسلّم عليه ، فذعر منه الملك فقال له : من أنت؟ ومن أذن لك في الدُّخول إليَّ في هذا الموضع الّذي لا يصل إلي فيه حاجب ولا غيره؟ فقال له الفتى : لا ترُع أيّها الملك إنّي لست بأنسيٍّ ولكنّي فتى من الجنِّ أتيتك لاُجازيك ببلائك الحسن الجميل عندي ، قال الملك : وما بلائي عندك؟ قال : أنا الحيّة الّتي أحييتني في يومك هذا والاسود الّذي قتلته وخلصتني منه كان غلاماً لنا
__________________
(١) راجع مكالمته مع معاوية كتاب « المعمرون » لابي حاتم السجستاني ص ٥٠.
(٢) ملوك التبابعة هم بنو حمير كانوا باليمن ، وإنّما سموا تبابعة لأنّه يتبع بعضهم بعضاً ، كلما هلك واحد منهم قام بعده واحد آخر ولم يكونوا يسمون الملك منهم بتبّع حتّى يملك اليمن.
(٣) الحمم : الرماد والفحم وكل ما احترق من النّار ، الواحدة حممة. (الصحاح).