وقال له : بينا أنت من عبيدي وعيون أهل مملكتي ووجهم وأشرافهم إذ فضحت نفسك وضيّعت أهلك ومالك واتّبعت أهل البطالة والخسارة حتّى صرت ضحكه ومثلاً ، وقد كنت أعددتك لمهمِّ اموري ، والاستعانة بك على ما ينوبني ، فقال له : أيّها الملك أنَّه أن لم يكن لي عليك حقٌّ فلعقلك عليك حق ، فاستمع قولي بغير غضب ، ثمَّ ائمر بما بدالك بعد الفهم والتثبيت ، فإنَّ الغضب عدوُّ العقل ، ولذلك يحول بين صاحبه وبين الفهم ، قال الملك : قل ما بدالك.
قال النّاسك : فإنّي أسألك أيّها الملك أفي ذنبي على نفسي عتبت علىَّ أم في ذنب منّي إليك سالف؟.
قال الملك : إنَّ ذنبك إلى نفسك أعظم الذُّنوب عندي ، وليس كلّما أراد رجل من رعيّتي أن يهلك نفسه اخلي بينه وبين ذلك ، ولكنّي أعد إهلاكه نفسه كإهلاكه لغيره ممّن أنا وليّه والحاكم عليه وله ، فأنا أحكم عليك لنفسك وآخذ لها منك إذ ضيّعت أنت ذلك ، فقال له النّاسك : أراك أيّها الملك لا تأخذني إلّا بحجّة ولانفاذ لحجّة إلّا عند قاض ، وليس عليك من النّاس قاض ، لكن عندك قضاة وأنت لأحكامهم منفذ ، وأنا ببعضهم راض ، ومن بعضهم مشفق.
قال الملك : وما أولئك القضاة؟ قال : أمّا الّذي أرضى قضاءه فعقلك ، وأمّا الّذي أنا مشفق منه فهواك ، قال الملك : قل ما بدالك وأصدقني خبرك ومتى كان هذا رأيك؟ ومن أغواك؟ قال : أمّا خبري فإني كنت سمعت كلمة في حداثة سنّي وقعت في قلبي فصارت كالحبّة المزروعة ، ثمَّ لم تزل تنمي حتّى صارت شجرة إلى ما ترى ، وذلك؟ أنّي [ كنت ] قد سمعت قائلاً يقول : يحسب الجاهل الامر الّذي هو لا شيء شيئاً والأمر الّذي هو الشيء لا شيء ، ومن لم يرفض الامر الّذي هو لا شيء لم ينل الامر الّذي هو الشيء ، ومن لم يبصر الامر الّذي هو الشيء لم تطب نفسه برفض الامر الّذي هو لا شيء ، والشيء هو الاخرة ، واللّاشيء هو الدُّنيا ، فكان لهذه الكلمة عندي قرار لأنّي وجدت الدُّنيا حياتها موتاً وغناها فقراً ، وفرحها ترحاً ، وصحّتها سقماً ، وقوَّتها ضعفاً ، وعزَّها ذلّاً ، وكيف لا تكون حياتها موتاً ، وإنّما يحيى فيما صاحبها ليموت ،