أقبلوا على جيفة قد افتضحوا بأكلها ، واصطلحوا على حبها ، ومن عشق شيئا أعمى بصره ، وأمرض قلبه ، فهو ينظر بعين غير صحيحة ، ويسمع بأذن غير سميعة ، قد خرقت الشهوات عقله ، وأماتت الدنيا قلبه ، وولّهت عليها نفسه ، فهو عبد لها ولما في يده شيء منها ، حيثما زال زال إليها ، وحيثما أقبلت أقبل عليها ، لا ينزجر من الله بزاجر ، ولا يتعظ منه بواعظ ، وهو يرى المأخوذين على الغرّة ـ حيث لا إقالة لهم ولا رجعة ـ كيف نزل بهم ما كانوا يجهلون ، وجاءتهم من فراق الدنيا ما كانوا يأمنون ، وقدموا من الآخرة على ما كانوا يوعدون ـ
فغير موصوف ما نزل بهم ، اجتمعت عليهم سكرة الموت وحسرة الفوت ، ففرّت لها أطرافهم ، وتغيرت لها ألوانهم ، ثم ازداد الموت فيهم ولوجا فحيل بين أحدهم وبين منطقه ، وإنه لبين أهله ، ينظر ببصره ويسمع بأذنه على صحة من عقله وبقاء من لبّه ، يفكر فيم أفنى عمره وفيم أذهب دهره ، ويتذكر أموالا جمعها ، أغمض في مطالبها ، وأخذها من مصرّحاتها ومتشابهاتها ، قد لزمته تبعات جمعها وأشرف على فراقها ، تبقى لمن وراءه ينعمون فيها ، فيكون المهنأ لغيره والعبء على ظهره ، والمرء قد غلقت رهونه بها ، فهو يعض يده ندامة على ما أضحر له عند الموت من أمره ، ويزهد فيما كان يرغب فيه أيام عمره ، ويتمنى أن الذي كان يغبطه بها ويحسده عليها قد حازها دونه ، يبالغ في جسده حتى خالط لسانه سمعه ، فصار بين أهله لا ينطق بلسانه ، ولا يسمع بسمعه ، يردد طرفه بالنظر في وجوههم ، يرى حركات ألسنتهم ولا يسمع رجع كلامهم ، ثم ازداد الموت التياطا ، فقبض بصره كما قبض سمعه ، وخرجت الروح من جسده فصار جيفة بين أهله ، قد أوحشوا من جانبه ، وتباعدوا من قربه ، لا يسعد باكيا ، ولا يجيب داعيا ، ثم حملوه إلى محط في الأرض فأسلموه فيه إلى عمله ، وانقطعوا عن زورته» (الخطبة ١٠٨).
(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(٥٣).
(لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ