أجل ، والنعم المتفاضلة على الإنسان بمنزلة الضيف النازل والجار المجاور الذي يحب أن يعد قراه ، ويكرم مثواه ، وتصفى مشاربه ، وتؤمن مساربه ، فإن أخيف سربه ورنق شربه وضيعت قواصيه واعتميت مقاربه كان خليقا بأن ينتقل وجديرا بأن يستبدل ـ
فكذلك النعم إذا لم يجعل الشكر قرى نازلها ، والحمد مهاد منزلها ، كانت وشيكة بالانتقال ، وخليقة بالزيال.
ذلك ، وفي خبر آخر عنه (صلّى الله عليه وآله وسلم): «أحسنوا جوار نعم الله فإنها وحشية» (١) ، وهنا يشبّه النعم بأوابد الوحش التي تقيم مع الإيناس ، وتنفر مع الإيحاس ، ويصعب رجوع شاردها إذا شرد ، ودنوّ ناخرها إذا بعد.
(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ)(٥٤).
ترى كيف يتكرر (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) بفاصل آية واحدة والمضمون نفس المضمون باختلاف يسير في تلحيقة التعبير؟
من مبررات ذلك التكرار اختلاف الموقفين كما تتكرر آية واحدة في «الرحمن» لمختلف المواقف ، ف (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) في الأولى تنظير لهم ب «الذين كفروا» و (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) حيث (فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً) (١٧ : ١٠٣) وفي الثانية «ب (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ) مع اختلاف يسير في التعبير قضية اختلاف في الموقف يسير.
ففي الأولى (كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) قضية أصل الألوهية ، وفي الثانية ، (كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) قضية ما غيروا بأنفسهم وجاه النعم الربانية ، ثم العذاب في الأولى : (فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ) قضية نفس الألوهية ، وفي الثانية : (فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) قضية ربوبيات منه إليهم في نعمه ، اقتضت إهلاكهم ، بصيغة المتكلم مع الغير حيث تعني جمعية صفات الجلال
__________________
(١) المصدر.