بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ) فقد صاحبهم صاحبهم عمرا من قبله بكلّ رزانة عقل ورحابة صدر ورصانة قدر : (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (١٠ : ١٦).
كيف وقد صاحبكم صاحبكم طوال أربعين عاما أمينا متينا عاقلا لحد سميتموه محمد الأمين ، فالآن تتهمونه بالجنة لأنه يأمركم بالمعروف وينهاكم عن المنكر (١) و (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) هويته في النذارة الرسالية بعقلية الوحي الصارم : (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) (٢٣ : ٧٠) ـ (كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) (٥١ : ٥٢).
ذلك لأن الرسالات الربانية تعارض الجاهليات والهمجيات المجنونة ، وهذه طبيعة الحال أن المجانين يحسبون من يخالفهم في جنّتهم مجانين وهم أولاء عقلاء!
(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا)؟ وهكذا يدق عليهم الله دقّاته المتواترة علّهم ينتبهون عن غفلتهم ويستيقظون عن غفوتهم ، إيقاظا لهم بإيعاظ بالغ من تحت الركام الطامّ المسيطر على فطرهم وعقولهم.
ولأن الإنسان بين عاقل ومجنون ، وهم صاحبوا المجانين وصاحبوا صاحبهم هذا الذي يقولون إنه لمجنون ، فهل رأوا فيه جنّة كسائر المجانين ، الخالطين في أقوالهم وأفعالهم ، المتناقضين في كل حالاتهم؟ ولم يدّع أحد من هؤلاء أنه رأى فيه ما كان يراه في المجانين ، بل ولا أنه رأى وزان ما رآه منه بين سائر العقلاء ، إذا فهو فوق العقلاء بعقلية الوحي بعد العقلية الإنسانية الناضجة التي كانوا يعترفون بها فيه في العمر الذي لبث فيهم قبل الرسالة.
__________________
(١) الدر المنثور ٣ : ١٤٩ عن قتادة قال : ذكر لنا أن نبي الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) قام على الصفا فدعا قريشا فحذا فحذا من قريش فقال : يا بني فلان يا بني فلان وكان يحذرهم بأس الله ووقائع الله إلى الصباح حتى قال قائلهم : إن صاحبكم هذا لمجنون بات يهوت حتى أصبح فأنزل الله هذه الآية.