الفائقة ، ويميلون إلى تفاهة الأعراض الدانية الفانية ، عائشين على هوامش الحياة وغوامشها : (وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ) وهم مستطيعون واقعيا ، ولا يستطيعون بأعذار غادرة مائرة ، كذب ماكر حاكر يدل على ضعف خامر ، مهما خيّل إليهم أنهم أقوياء ، كلا وانهم ضعفاء أغوياء (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) كما وأهل الله يعلمون.
لقد حاولوا ماكرين ليأذن لهم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ليكونوا مع القاعدين المعذورين فأذن لهم ظنا منه أنهم صادقون في اعتذارهم حسب المرسوم من تصديق ظاهر الاعتذار ممن يدعي ويبرز الإيمان ، ولكنه كان عاجلا فعفي الله عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) :
(عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ)(٤٣).
هنا يتساءل قائد القوات المسلحة الرسولي (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى ...) قرينا ب (عَفَا اللهُ عَنْكَ) دون أن تبرز توبة منه (صلى الله عليه وآله وسلم) واستعفاء ، فهل هو بعد عصيان بقرينة (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ)؟ أم ليس عصيانا بنفس النص ، حيث لم يقرن بتوبة؟.
قد تعني «عفى» دون «يعفو» عفوا سابقا سابغا على إذنه كما له سابقة في : (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ) (٢ : ١٨٧) فإنه عفو عن حكم الصيام ليلا أن الله نفى بما عفى حكم صيام الليل ، فليس ـ إذا ـ عفوا عن عصيان رفعا ، وإنما هو عفو دفعا ، وكما الاستغفار والغفر حيث يجمعان الدفع إلى الرفع ، فقد عفى الله عنه قبل إذنه إياه لذلك الإذن ، ثم أنبه دون تأليب (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) وبيّن سبب التأنيب «حتى تعلم ..» ولكنه تعالى عرفهم إياه فلم يكن ـ إذا ـ إذنه عصيانا.
وما أحسنه تعبيرا أدبيا أديبا يحافظ على كرامة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبدأ بالعفو قبل ظاهرة المعاتبة ، مما يدل على أنها معاتبة ودية أدبية ، دون أية معاقبة أم مسّ من كرامة العصمة.