بواقع المعرفة ، فقد يعرفونها ، ومع الوصف لا يرجعون ، أم لا يستطيعون ، فما أحسنه تعبيرا أدبيا في حساب المستقبل إذ لا يحتّم شيئا من الأمرين إلا رجاء على رجاء.
فها هم الآن يرجعون إلى أهليهم ومعهم بضاعتهم في رحالهم وجهازهم بإيفاء كيل وخير إنزال مما يرغبهم ، ولكنهم على وعد أن يأتوه بأخيهم مما يرهبهم ، عائشين في هذا البين بين الخوف والرجاء ، متشاورين في طريقهم كيف يراودون أباهم عن أخيهم ، وسابق مراودتهم إياه عن يوسف قد يحول بينه وبين هواهم!
هنا ندع يوسف في مصره ، ولنشهد مشهد الجمع بينهم وبين أبيهم ماذا يقولون وكيف يفعلون؟
(فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)(٦٣).
في هذه المرة لا تعني المراودة احتيالا لاغتيال ، وإنما اكتيالا لأنفسهم وآخر لأخيهم ، ولماذا هنا يتقدم (مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ) وهو الأخير في ترهيب بعد ترغيب؟ علّه لأنه الحاسم لموقفهم والمحرض لسؤالهم : لماذا منع الكيل؟ ثم الجواب يضم الأوّلين : (أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) وقد يعني «منع» فيما عناه كيل أخيهم أم أبيهم ، فمهما كان أبوهم شيخا كبيرا لا يأتيه ، فأخوهم لا يعذر إذا لم يأته فلا كيل له ، وقد يشير له (وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ).
ولو لا عرضهم لما حصل عن تفصيل لم تكن صلة مقبولة بين منع الكيل وإرسال الأخ للاكتيال ، وهنا «أخانا» دون «ابنك» مزيد تأكيد لإرساله بتعطف أخوي ، وتأكيد ثان (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ).
وهم بذلك الطلب العارم الجازم يستثيرون كوامن يعقوب حيث وعده من قبل في يوسف نفس الوعد بنفس الصيغة ، وقد خالفوه! فكيف يأمن لهم بسابق كيدهم وميدهم؟ ولذلك نجده :