وما هو موقف الفاء في (فَهُوَ كَظِيمٌ)؟ علّه كعلة ل (ابْيَضَّتْ عَيْناهُ) فالحزن الظاهر المتظاهر يخفف عبء الباطن المتكاثر ، وأما إذا كان مكظوما لا يظهر ، فهو صادر عن القلب ووارد في القلب ، فيحرق القلب ويؤثر على القالب ، ولماذا «عيناه»؟ طبعا لمزيد البكاء ، وطبعا ابيضّ سائر شعره مع عينيه ، واحدودب ظهره ، وكل ذلك لعظم الحزن وأنه كظيم لا يظهر حزنه.
(قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ)(٨٥).
«تفتؤ» هنا منفي بأداته المحذوف (لا) ، المدلول عليها ، بترك اللّام ونون التأكيد في جوابه ، فإنهما لزامان الجواب القسم في الإثبات.
(قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا) : لا تنقطع (تَذْكُرُ يُوسُفَ) آسفا حزينا كئيبا ، كلمة حانقة خانقة مستنكرة ، ظاهرها فيه الرحمة تعطفا على أبيهم ، وباطنها من قبله العذاب تنديدا شديدا بأبيهم ، كيف يأسى على يوسف الفقيد منذ سنين؟
تدأب في ذكر يوسف (حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً) : مشرفا على الهلاك كما هلكت عيناك (أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ) والحرض ما لا يعتد به ولا خير فيه ، وهذه هلكة الإنسان في كيانه قبل هلاكه بموته ، فلا هو حي كالأحياء ، ولا ميت كالأموات! وهكذا يتظاهرون لأبيهم في مظهر الناصح المشفق ألّا يتذوّب بذكر يوسف الفقيد حيث ذهب دون عودة ، ولكنه يرد عليهم ردا حازما حاسما جازما : أنه لا يشكو إليهم ما كان منهم ولا يجزع لديهم :
(قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)(٨٦).