(تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) ٨٣.
إن الدار الآخرة بالزلفى والمكانة العليا ، «تلك» البعيدة المدى ، العالية الصدى ، الغالية الهدى (الدَّارُ الْآخِرَةُ) الحسنى ، حصيلة لحسنى الأولى «نجعلها» تكوينا وتشريعا (لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ) أيا كان ، وحتي في منصب العدل والحكم الحق ، إذ لا يريدون في ذلك الحقل إلّا تحقيق الحق وإبطال الباطل ، وما العلوّ الحكم عندهم إلّا ذريعة لذلك ، وكما أشار إمامهم أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى نعله المخصوف قائلا : «والله لهي أحب إلي من إمرتكم هذه إلا أن أقيم به حقا أو أبطل باطلا». فالعلو في الأرض لهم غير مراد ، ثم (وَلا فَساداً) بعلو وغير علو ، والعلو أيا كان يستتبع فسادا مهما كان لأهل العدل إلّا من عصم الله وهداه.
فارادة العلو هي بطبيعة الحال من أقوى مصاديق الفساد في الأرض ف (مِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ. وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ. وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ) (٢ : ٢٠٦)) ... وليس ان إرادة العلو في الأرض ممنوعة ـ فقط ـ لألد الخصام ، بل وعدول المؤمنين ، لأن كراسيّ الحكم مآزق بطبيعة الحال ، وقل من ينجو منها ، وقد يروى عن رسول الهدي (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله في الآية : «التجبر في الأرض والأخذ بغير الحق» (١)
__________________
(١) الدر المنثور ٥ : ١٣٩ ـ اخرج المحاملي والديلمي في مسند الفردوس عن أبي هريرة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في قوله (تِلْكَ الدَّارُ ..) قال : ...