وبما أن كل ما في الآخرة هو مثال لما في الدنيا ثوابا أو عقابا ، جزاء وفاقا ، فهذا السور المضروب بينهم في المحشر مثال عما ضرب بينهم يوم الدنيا ، سور الحياة الدنيا ، الذي حاول المؤمنون أن يبطنوه وينظروه عميقا وبعيدا فبصرهم :
(من أبصر بها بصرته) وغيرهم نظروا الى ظاهر منه و (أبصروا إليها فأعمتهم) :
(يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) (٢٠ : ٧) والدنيا هي الدنيا والسور هو السور ، وإنما اختلفوا وافترقوا في مفترق النظر بحديد البصر ، ففريق في الجنة وفريق في السعير.
ف (باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ) كما في باطن الحياة الدنيا الناحي منحى الرحمات لمن أبصر بها ، (وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) كظاهر الحياة الدنيا لمن أبصر إليها ، فالحياة الدنيا في باطنها الرحمة ، وظاهرها من قبلها العذاب ، لا أنها العذاب أو فيها العذاب ، وإنما من قبلها وبسببها لمن يعلم ظاهرا منها ويجهل باطنها.
ومن لطيف التعبير (فضرب) ماضيا ، لا (فيضرب) مضارعا ، رغم استقبال الضرب ، مما يوحي أن هذا السور المضروب يوم الاخرى كان مضروبا من قبل يوم الاولى ، فليس سور الاخرى إلا استمرار الاولى في صورة اخرى! ثم هذا السور حاجب الرؤية وليس حاجب الصورت حيث الحوار والتنادي :
(يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) في سور الدنيا ، ونعيش مع بعض ، ويساكن بعضنا البعض ، عشنا في صعيد واحد ، وحشرنا معكم في صعيد واحد ، فلما ذا هذا الفراق بين الرفاق؟ وقد كنا مسلمين!.
قالوا (أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) :
(قالُوا بَلى) : كنتم معنا معية الزمان والمكان وفي ظاهر الإيمان ، وليست تفيد هذه المعية المادية الجوفاء ، إذا اختلفنا في معية حقيقة الإيمان ، فمقاييس الاخرى تختلف عن الاولى اختلاف الحساب عن الفوضي.