فهي في الآخرة (مَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ) لمن قصر قليلا وجاهد كثيرا (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ) لمن عاش حياته رضوان الله.
فانما الدنيا مزرعة الآخرة ، وأهلها كلهم زراع ، فمنهم من يخسر زرعه ويخسر كالزراع الكفار ، ومنهم من يربح ويربح كالزراع المؤمنين.
(وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) : إنها متاع يتمتع به الى حين : (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) (٢ : ٣٦) دون استمرار ليوم الدين ، وهي كذلك متاع يشترى به غفران من الله ورضوان ، وإن كان قليلا بجنب ما يبدل عنه : (فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) (٦ : ٣٨) فلا أصالة للحياة الدنيا القلة إلا متاعا في الآخرة : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ) (١٣ : ٢٦) أجل انها متاع ولكنها تغري المتمتعين بها انها أصيل ، يبصرون إليها كغاية فتعميهم عماية عن حقيقتها المتاع الزهيد ، (وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ) ولو أبصروا بها فهي «في الآخرة (مَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ)!.
ولو استعلمنا بعيد النظر في هذه العبر وجدنا أن القرآن لا يقصد بهذه المهانة للحياة الدنيا إهمالها والعزلة عنها فنعيش حياة الرهبان والدراويش ، وإنما يقصد تصحيح المقاييس في استعمال هذه الحياة لتتخطى الدنيا إلى العليا ، والاستعلاء على غرور هذا المتاع الغرور ، لنستبدل بها حياة أبقى وأرقى في الآخرة والاولى ، فالدين يستعمر الاولى قبل الاخرى ويستمر بالإنسان في حياة عليا وهو في الدنيا ، ويصنع ميادين السباق للرفاق في هذه القنطرة إلى مغفرة وجنة :
(سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) :
نؤمر هنا بالسباق ، وفي غيرها بالسراع : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (٣ : ١٣٢).