(لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا .. وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ .. وَلِيَعْلَمَ اللهُ .. إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) :
فلأنه قوي الحجة والمهجة ، قوي الرحمة والمحبة ، قوي اللطف والعناية ، جعل الناس تحت ظلال البينات والكتاب والميزان ، ولأنه عزيز غالب محمود في غلبه ، ينفّذ شريعته أخيرا بقوة الحديد ، فللجهاد الدور الأخير بعد شلّ الحجج في تقويم الأود وتدعيم العمد ، رغم انها بالغة دامغة ، فالحديد ببأسه الشديد يفسح مجالات فاسحة للحياة الأمينة النبيلة ، بما يكسح ويمسح وصمات العار عن جبين الإنسانية بدحر أعداءها وقهر ألداءها!
ثم الرسالات الإلهية هي رسالة واحدة في جوهرها ، في مبدءها ومنتهاها ، في معناها ومغزاها ، مهما تشطرت في جزئيات هامشية منها ، كما وان أممها أمة واحدة : (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (٢١ : ٩٢) : امة لله ، تلتقي في عبادة الله.
وترى لماذا (لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) لا المكلفون أجمع ومنهم الجان؟ هل لأن الرسل أرسلوا للناس فقط؟ وليست الرسالة محصورة لهم!
أقول : ليس إلا لأنهم محور الدعوة الرسالية والجان فروع ، كما وان رسالتهم فرع لرسالتهم ، فالرسل الأصول هم من الإنس للمرسل إليهم الأصول ، ثم الرسل الفروع الجن هم للمرسل إليهم الفروع الجن ، والقيام بالقسط على ضوء هذه الرسالات معني فيهم أجمع.
وقد توحي (وَلِيَعْلَمَ) انه الأصل في مثلث المنافع للحديد ، ف (فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) هما نفعان له بطبيعة الحال ، قصدا أم لم يقصدا ، ولكن ثالث الأضلاع : (وليعلم) مقصود من الحديد ، فالجهاد به خير من سائر بأسه ، وأنفع من سائر منافعه ، لأنه يحفظ بيضة الدين ، ويؤمن الحياة ويطمئنها للمؤمنين ، كما وان علم الناصرين منهم عن الخاذلين مما يبصّرهم في مجتمعهم ، لكيلا يأمنوا إلى كل من يدعي الايمان ، نعمتان هامتان من بين سائر نعم الحديد!