سلوك السبل المستطاعة ، فقصورها وكلالها عن كفاية البأس ، فالتوكل على الله قادرين وقاصرين : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) (٦٥ : ٣).
فلا يعني التوكل على الله ترك الأسباب تفريطا لها ، ولا فيما إذا كلّت أو قلّت فحسب ، وإنما ترك التوكل على غيره من أسباب ، بل التوسل بها لوصول البغية متوكلا في كل ذلك على الله ، دون توهّم لاستقلال الأسباب وإن كانت كافية حسب الظاهر ، فإن له تعقيمها ، كما له تتميمها إذا قلّت أو كلّت.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) :
بما أن الدين ليس تكاليف حرفية جافة ، ولكنه تحوّل في الشعور ، واستجاشة لمكارم الأخلاق ، وحساسية في الضمير ، لذلك نرى الآيات تترى في تأديب الجماعة المسلمة بالمثل العليا ، وتأنيبها فيما ينافيها ، في كل قولة وحركة وسكون.
والتفسح في المجالس هو التوسع فيها ، وأحرى المجالس بذلك مجالس النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ، كما أنه أفضل القائلين : (تفسّحوا ـ انشزوا) ، وقد كان المسلمون يتضامّون في مجالسه صلّى الله عليه وآله وسلّم ركاما ، تنافسا على القرب منه ، وتحارصا على استماع كلامه ، فإذا ورد وارد ضنّوا بالتفسح له ، فأمرهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ألا يضنّوا ، ويتفسحوا في المجالس ترحيبا وترغيبا للواردين ، ولا سيما إذا كانوا أفضل منهم في الإيمان ـ هنا ـ «فافسحوا» وبأحرى إذا كان الوافد أعلم ، «فانشزوا» : ارفعوا : قوموا وقدموهم على أنفسكم في المكان كما هم أفضل منكم في المكانة.
نزلت الآية يوم الجمعة ورسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم جالس في الصفّة وفي مكان ضيق ، وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار ، فقدم جماعة منهم عليه صلّى الله عليه وآله وسلّم ،