ولئن سأل سائل : إذا كان هؤلاء أعداء الله وأعداء المؤمنين فكيف بالإمكان موالاتهم والإلقاء إليهم بالمودة ، والقلب لا يتحمل المتناقضين؟ فالجواب : ان الموالاة هنا ليست هي القلبية ، وإنما ظاهرية دفاعا عن شرّ يزعم ، وشاهدا عليه ـ إضافة إلى شاهد الإلقاء ـ ترجّي المودة في المستقبل إذا زال الكفر : (عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً).
ثم هذه الآيات وإن كانت تنديدا شديدا من زاوية بمن اعتمل هذه العملية النكراء الخائنة ، ولكنها من زوايا اخرى بين محذرة الكفار المستغلين ، ومربية البعض من المؤمنين المستغلين الضالين هنا سواء السبيل.
فهنا لك نقف مرة اخرى وقفة الحائرين أمام عظمة العطف الرباني بشأن هؤلاء إذ يخاطبهم خطاب المؤمنين ، لا المنافقين ، رجاء رجوعهم عما فعلوا ، وندمهم عما افتعلوا كما فعلوا ، وكذلك العطف النبوي المعطوف إلى العطف الرباني بخلقة العظيم إذ لا يعجل بحاطب حتى يسأل : (ما حملك على ما صنعت؟) بكل رحابة صدر وحنان ، فلما صارحه بما قصد مجيبا عتاب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم : (لا تعجل عليّ يا رسول الله! إني كنت امرءا ملصقا من قريش ولم أكن من أنفسها ، وكان معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة ، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أصطنع إليهم يدا يحمون بها قرابتي ، وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني) (والله يا رسول الله ما نافقت ولا غيّرت ولا بدّلت ، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله حقا) (١).
هنا يكف الصحابة عنه بقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (صدق ، لا تقولوا إلا خيرا) ، ولينتهضه من عثرته من فوره ، دون مطاردة ومشاردة.
ونجد خلاف هذا الحزم في الخليفة عمر ، إذ ينظر إلى العثرة ذاتها ، دون أن
__________________
(١). الفقرة الاولى في الدر المنثور ، والثانية في تفسير القمي.