من المشركين ، قذف أخاه في لهواتها ، فلا ينكفئ حتّى يطأ صماخها بأخمصه ، ويخمد لهبها بسيفه ، مكدودا في ذات الله ، مجتهدا في أمر الله ، قريبا من رسول الله ، سيّدا في أولياء الله، مشمّرا ، ناصحا ، مجدّا ، كادحا ، لا تأخذه في الله لومة لائم ، وأنتم في رفاهية من العيش ، وادعون فاكهون آمنون ، تتربّصون بنا الدوائر ، وتتوكّفون الأخبار ، وتنكصون عند النزال ، وتفرّون من القتال.
فلمّا اختار الله لنبيّه دار أنبيائه ومأوى أصفيائه ، ظهرت فيكم حسيكة النفاق ، وسمل جلباب الدين ، ونطق كاظم الغاوين ، ونبغ خامل الأقلّين ، وهدر فنيق المبطلين ، فخطر ... هذا والعهد قريب ، والكلم رحيب ، والجرح لمّا يندمل ، والرسول لمّا يقبر ، ابتدارا زعمتم خوف الفتنة؟! (أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) (١) ...
حتّى إذا دارت بنا رحى الإسلام ، ودرّ حلب الأيام ، وخضعت نعرة الشرك ، وسكنت فورة الإفك ، وخمدت نيران الكفر ، وهدأت دعوة الهرج ، واستوسق نظام الدين ، فأنّى جرتم بعد البيان؟! وأسررتم بعد الإعلان؟! وأشركتم بعد الإيمان؟! بؤسا لقوم نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم ...
ألا وقد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض ، وأبعدتم من هو أحقّ بالبسط والقبض ... ألا وقد قلت ما قلت على معرفة منّي بالخذلة التي خامرتكم ، والغدرة التي استشعرتها قلوبكم ...» (٢).
وقالت في خطبتها الأخرى : «ويحهم! أنّى زعزعوها عن رواسي الرسالة ، وقواعد النبوّة والدلالة ، ومهبط الروح الأمين ، والطبين بأمور الدنيا والدين؟! (أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) (٣).
__________________
(١). التوبة / ٤٩.
(٢). شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ٤ / ٧٨ ـ ٩٤.
(٣). الزمر / ١٥.