واعلم أن هذا الدليل مأخوذ من القرآن ، قال تعالى : (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (١).
الثالث : كان أبو حنيفة سيفا على الدهرية وكانوا ينتهزون الفرصة في قتله فبينما هو قاعد في مسجده يوما إذ هجم عليه جماعة بسيوف مسلولة وهموا بقتله. فقال لهم : أجيبوني عن مسألة ثم افعلوا ما شئتم. فقالوا : هات. فقال : ما تقولون في رجل يقول لكم : إني رأيت سفينة مشحونة بالأحمال ، مملوءة من الأثقال ، قد احتوشها في لجة البحر أمواج متلاطمة ، ورياح مختلفة ، وهي في هذه الأحوال تجري مستوية ، ليس لها ملاح يجريها ، ولا متعهد يحفظها. هل يجوز ذلك في العقل؟ قالوا : لا ، هذا شيء لا يقبله العقل. فقال : أبو حنيفة يا سبحان الله إذا لم يجز في العقل سفينة تجري من غير متعهد ولا حافظ ، فكيف يجوز قيام هذه الدنيا على اختلاف أحوالها ، وسعة أطرافها ، وتباين أكنافها من غير صانع وحافظ؟ فبكوا جميعا ، وقالوا : صدقت.
واعلم أن هذه الدلالة مأخوذة من قوله سبحانه : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) (٢) ومن قوله تعالى (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) (٣)
الرابع : سألوا الشافعي [رضوان الله عليه] (٤) عن الدليل عن الصانع فقال : ورقة الفرصاد طعمها ولونها ، وريحها ، وصبغها : واحد. تأكلها دودة القز فيخرج منها الإبريسم ، ويأكلها النحل فيخرج منه العسل ، وتأكلها الظباء فينعقد في نوافجها المسك ، وتأكلها سائر الحيوانات فتفضل مع العفونة والفساد. فالذي دبر هذه الأجسام على هذه المناهج العجيبة : هو الله سبحانه.
__________________
(١) العنكبوت ٦٥.
(٢) الروم ٢٥.
(٣) الرعد ٢.
(٤) من (س).