كلتا القضيتين يثبت المحمول للموضوع ، والموضوع فيهما عبارة عن عدم أحد الضدّين ، ومعلوم أنّه لا واقعيّة للعدم لا في الخارج ولا في الذهن ولا في نفس الأمر ، سيّما على القول بأصالة الوجود ، فكيف تجري القاعدة الفرعيّة هنا؟!
إن قلت : إنّ للعدم حظّا من الواقعيّة ، ولذا يقال في الفلسفة : إنّ وجود العلّة علّة لوجود المعلول ، وعدم العلّة علّة لعدم المعلول ، فالتأثير والتأثّر لا ينحصر بدائرة الوجود ، بل للعدم أيضا العلّيّة والتأثير ، فلا مانع من القول بأنّ عدم أحد الضدّين مقدّمة للضدّ الآخر.
قلنا : إنّ هذا التعبير لا واقعيّة له ؛ إذ كيف يمكن أن تكون العلّة عدما والمعلول أيضا عدما؟! ولكنّ أحد العدمين مؤثّرا في عدم الآخر ، ولكنّه ليس إغراء بالجهل بعد إثبات أنّ العدم ليس بشيء ، بل هو تأكيد للجملة الاولى ، كأنّه يقول : إنّ شدّة ارتباط المعلول بالعلّة وقوّته بحدّ ينعدم المعلول بانعدام العلّة ، لا أنّ له العلّيّة والتأثير ، ولذا القضيّة الحمليّة التي كان موضوعها أمرا عدميّا ومحمولها أمرا وجوديّا ليست بقضيّة صادقة.
وللمحقّق الأصفهاني قدسسره (١) هاهنا كلام مخالف لكلام الإمام قدسسره وذكر في الابتداء مسألة بعنوان المقدّمة ، وهي في نفسها قابلة للدقّة ولا تخلو عن فائدة ، وقال : إنّ التقدّم قد يكون تقدّما علّيا ، وقد يكون تقدّما طبعيّا ، وما فيه التقدّم في الأوّل عبارة عن ضرورة الوجود ، وفي الثاني عبارة عن نفس الوجود.
ثمّ قال : إنّ التقدّم الطبعي على أقسام ؛ لأنّ المتقدّم قد يكون دخيلا في قوام المتأخّر مثل : تقدّم الجزء على الكلّ ، وقد يكون للمتقدّم عنوان المؤثّريّة في المتأخّر كتقدّم المقتضي بالنسبة إلى المقتضى ، مثل : تقدّم النار على الإحراق ،
__________________
(١) نهاية الدراية ٢ : ١٨٠ ـ ١٨٤.