أن ينقل هذا جميعه عن أولئك الذين كانوا في السفينة؟ وأولئك جميعهم لم يكن لهم نسل ، وإنما النسل لنوح ، وجميع الناس من أولاده ، وهم ثلاثة : سام وحام ويافث. كما قال تعالى : (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) [الصافات : ٧٧] فلم يجعل باقيا إلا ذريته. وكما روي ذلك عن النبي صلىاللهعليهوسلم : «إن أولاده ثلاثة» رواه أحمد وغيره. ومعلوم أن الثلاثة لا يمكن أن ينطقوا بهذا كله ، ويمتنع نقل ذلك عنهم! فإن الذين يعرفون هذه اللغة لا يعرفون هذه. وإذا كان الناقل ثلاثة منهم قد علّموا أولادهم ، وأولادهم قد علّموا أولادهم ، ولو كان كذلك لاتصلت. ونحن نجد بني الأب الواحد يتكلم كل قبيلة منهم بلغة لا تعرفها الأخرى. والأب الواحد لا يقال إنه علم أحد ابنيه لغة ، وابنه الآخر لغة ، فإن الأب قد لا يكون له إلا ابنان ، واللغات في أولاده أضعاف ذلك. والذي أجرى الله عليه عادة بني آدم ، أنهم إنما يعلمون أولادهم لغتهم التي يخاطبونهم بها ، أو يخاطبهم بها غيرهم. فأما لغات لم يخلق الله من يتكلم بها فلا يعلّمونها أولادهم ، وأيضا فإنه يوجد بنو آدم يتكلمون بألفاظ ما سمعوها قط من غيرهم والعلماء من المفسرين وغيرهم لهم في الأسماء التي علمها آدم قولان معروفان عن السلف :
أحدهما : أنه إنما علمه أسماء من يعقل ، واحتجّوا بقوله : (ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ) [البقرة : ٣١] قالوا : وهذا الضمير لا يكون إلا لمن يعقل. وما لا يعقل يقال فيها : علمها. ولهذا قال أبو العالية : «علّمه أسماء الملائكة لأنه لم يكن حينئذ من يعقل إلا الملائكة ، ولم يكن له ذرية ، ولا كان إبليس قد انفصل عن الملائكة ولا كان له ذرية». وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : «علّمه أسماء ذريته». وهذا يناسب الحديث الذي رواه الترمذي وصححه عن النبي صلىاللهعليهوسلم : «أن آدم سأل ربه أن يريه صور الأنبياء من ذريته ، فرآهم ، فرأى فيهم من يبص ، فقال : يا ربّ! من هذا؟ قال : ابنك داود» (١). فيكون قد أراه صور ذريته ، أو بعضهم ، أو أسماءهم. وهذه أسماء أعلام لا أجناس.
الثاني : أنّ الله علمه أسماء كل شيء. وهذا قول الأكثرين كابن عباس وأصحابه. قال ابن عباس : «علمه حتى الفسوة والفسيّة والقصعة والقصيعة» أراد أسماء الأعراض والأعيان مكبّرها ومصغّرها. والدليل على ذلك ، ما ثبت في
__________________
(١) أخرجه الترمذي في التفسير ، سورة الأعراف.