على أدقّ دقيق لتفهم العامة من جليّها ما يقنعهم ويلزمهم الحجة ، ويفهم الخواصّ من أثنائها ما يوفي على ما أدركه فهم الحكماء. وعلى هذا النحوة قال عليهالسلام «إنّ لكلّ آية ظهرا وبطنا ولكلّ حرف حدا ومطلعا» (١) ، لا على ما ذهب إليه الباطنية.
ومن هذا الوجه كل من كان حظه في العلوم أوفر ، كان نصيبه من علم القرآن أكثر. ولذلك ، إذا ذكر تعالى حجة إلى ربوبيته ووحدانيته أتبعها مرة بإضافتها إلى أولي العقل ، ومرّة إلى أولي العلم ، ومرّة إلى السامعين ومرّة إلى المفكرين ، ومرّة إلى المتذكرين تنبيها على أن بكلّ قوة من هذه القوى يمكن إدراك حقيقة منها ، وذلك نحو قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [الرعد : ٤] وغيرها من الآيات.
شرف علم التفسير
قال الإمام الراغب الأصفهانيّ في مقدّمة تفسيره :
«أشرف صناعة يتعاطاها الإنسان تفسير القرآن وتأويله. وذلك أن الصناعات الحقيقية إنما تشرف بأحد ثلاثة أشياء :
إمّا بشرف موضوعاتها ، وهي المعمول فيها ، نحو أن يقال : الصياغة أشرف من الدباغة لأنّ موضوعها ـ وهو الذهب والفضة ـ أشرف من جلد الميتة ـ الذي هو موضوع الدباغة ـ وإمّا بشرف صورها ، نحو أن يقال : طبع السيوف أشرف من طبع القيود.
وإمّا بشرف أغراضها وكمالها ، كصناعة الطب ـ التي غرضها إفادة الصحة ـ فإنها أشرف من الكناسة ـ التي غرضها تنظيف المستراح «فإذا ثبت ذلك ، فصناعة التفسير قد حصل لها الشرف من الجهات الثلاث ، وهو أنّ موضوع التفسير كلام الله تعالى : الذي هو ينبوع كل حكمة ، ومعدن كل فضيلة ، وصورة فعله : إظهار خفيات ما أودعه منزله من أسراره ليدّبروا آياته وليتذكر أولو الألباب ، وغرضه التمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها ، والوصول إلى السعادة الحقيقية التي لا فناء لها. ولهذا عظّم الله محله بقوله : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) [البقرة : ٢٦٩] قيل : هو تفسير القرآن» انتهى.
__________________
(١) أورد السيوطي ، في الإتقان في علوم القرآن ، ٢ / ١٨٤. قال الفريابي : حدثنا سفيان عن يونس بن عبيد عن الحسن قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «لكل آية ظهر وبطن ، ولكل حرف حدّ ، ولكل حد مطلع».