يُحْسِنُونَ صُنْعاً) [الكهف : ١٠٤] ، أو قولي (قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ) [الشعراء : ١٦٨]؟
فإن في دعوى مثل هذا على القرآن ، وأنه مقصود للمتكلم به ، خطرا. بل هو راجع إلى معنى قوله تعالى : (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ) [النور : ١٥] ، وإلى أنه قول في كتاب الله بالرأي. وذلك بخلاف الكناية في قوله تعالى : (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) [النساء : ٤٣] ، وقوله : (كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) [المائدة : ٧٥] ، وما أشبه ذلك. فإنه شائع في كلام العرب ، مفهوم من مساق الكلام ، معلوم اعتباره عند أهل اللسان ضرورة. والتجنيس ونحوه ليس كذلك. وفرق ما بينهما خدمة المعنى المراد وعدمه. إذ ليس في التجنيس ذلك ، والشاهد على ذلك ندوره في العرب الأجلاف البوّالين على أعقابهم (كما قال أبو عبيدة) ، ومن كان نحوهم. وشهرة الكناية وغيرها. ولا تكاد تجد ما هو نحو التجنيس إلا في كلام المولدين ومن لا يحتج به. فالحاصل أن لكل علم عدلا ، وطرفا إفراط وتفريط. والطرفان هما المذمومان. والوسط هو المحمود.
ثم قال الشاطبيّ :
فصل
إذا تعين أن العدل في الوسط فمأخذ الوسط ربما كان مجهولا. والإحالة على مجهول لا فائدة فيه. فلا بد من ضابط يعوّل عليه في مأخذ الفهم. والقول في ذلك ، والله المستعان. إن المساقاة تختلف باختلاف الأحوال والأوقات والنوازل. وهذا معلوم في علم المعاني والبيان. فالذي يكون على بال من المستمع المتفهم الالتفات إلى أول الكلام وآخره بحسب القضية وما اقتضاه الحال فيها. لا ينظر في أولها دون آخرها ولا في آخرها دون أولها. فإن القضية ، وإن اشتملت على جمل ، فبعضها متعلق بالبعض. لأنها قضية واحدة نازلة في شيء واحد. فلا محيص للمتفهم عن رد آخر الكلام على أوله ، وأوله على آخره. وإذ ذاك يحصل مقصود الشارع في فهم المكلف. فإن فرّق النظر ، في أجزائه فلا يتوصل به إلى مراده. فلا يصح الاقتصار في النظر على بعض أجزاء الكلام دون بعض إلا في موطن واحد. وهو النظر في فهم الظاهر بحسب اللسان العربيّ وما يقتضيه. لا بحسب مقصود المتكلم. فإذا صح له الظاهر على العربية رجع إلى نفس الكلام. فعمّا قريب يبدو له منه المعنى المراد. فعليه بالتعبد به ، وقد يعينه على هذا المقصد النظر في أسباب التنزيل فإنها تبين كثيرا