وهذه الهداية يصح أن يقال : هي مباحة للعقلاء كلهم ، ويصح أن يقال : هي محظورة إلّا على أوليائه ، لما كان في إمكان جميع العقلاء أن يترشحوا لتناولها. ومن ذلك قيل : إنها لا يسهل تناولها قبل أن يتشكل الإنسان بشكل مخصوص ، بتقديم عبادات. وقد قال بعض المحققين : الهدى من الله كثير ، ولا يبصره إلّا البصير ، ولا يعمل به إلّا اليسير. ألا ترى إلى نجوم السماء ما أكثرها ولا يهتدي بها إلا العلماء. وقال بعض الأولياء : إن مثل هداية الله مع الناس كمثل سيل مرّ على قلات وغدران ، فيتناول كلّ قلت منها بقدر سعته ـ ثم تلا قوله ـ (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها) [الرعد : ١٧] وقال بعضهم : هي كمطر أتى على أرضين فينتفع كل أرض بقدر ترشيحها للانتفاع به.
(والمنزلة الرابعة) من الهداية التمكين من مجاورته في دار الخلد ، وإياها عنى الله بقوله (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا) [الأعراف : ٤٣]. فإذا ثبت ذلك فمن الهداية ما لا ينفى عن أحد بوجه. ومنها ما ينفى عن بعض ويثبت لبعض ، ومن هذا الوجه قال تعالى لنبيّه صلىاللهعليهوسلم : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) [القصص : ٥٦]. وقال : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [البقرة : ٢٧٢] ، وقال : (وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) [الروم : ٥٣]. فإنّه عنى الهداية ـ التي هي التوفيق وإدخال الجنة ـ دون التي هي الدعاء لقوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الشورى : ٥٢]. وقال في الأنبياء : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) [الأنبياء : ٧٣]. فقوله : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) فسّر على وجوه بحسب أنظار مختلفة إلى الوجوه المذكورة : (الأول) أنه عنى الهداية العامة ، وأمر أن ندعو بذلك ـ وإن كان هو قد فعله لا محالة ـ ليزيدنا ثوابا بالدعاء ، كما أمرنا أن نقول : اللهم صلّ على محمد. (الثاني) قيل : وفقنا لطريقة الشرع. (الثالث) احرسنا عن استغواء الغواة واستهواء الشهوات ، واعصمنا من الشبهات. (الرابع) زدنا هدى استنجاحا لما وعدت بقولك : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) [التغابن : ١١]. وقولك : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) [محمد : ١٧]. (الخامس) قيل : علمنا العلم الحقيقيّ فذلك سبب الخلاص ، وهو المعبّر عنه بالنور في قوله : (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) [النور : ٣٥] (السادس) قيل : هو سؤال الجنة ، لقوله تعالى : (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ) [محمد : ٤ ـ ٥]. وقال : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ) [يونس : ٩] الآية. فهذه الأقاويل اختلفت