الضلالة قد عطّلوه ، واستبدلوها به ، فاستعير ثبوته لتمكّنهم بجامع المشاركة في استتباع الجدوى ولا مرية في أنّ هذه المرتبة ـ من التمكّن ـ كانت حاصلة لهم بما شاهدوه ـ من الآيات الباهرة ، والمعجزات القاهرة ـ من جهة النبي صلىاللهعليهوسلم.
(فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) عطف على الصلة داخل في حيزها. والفاء للدلالة على ترتّب مضمونه عليها. والتجارة صناعة التجار ، وهو التصدّي للبيع والشراء ، لتحصيل الربح وهو الفضل على رأس المال ، وإسناد عدمه ـ الذي هو عبارة عن الخسران ـ إليها ، وهو لأصحابها ، من الإسناد المجازيّ وهو : أن يسند الفعل إلى شيء يتلبس بالذي هو في الحقيقة له ـ كما تلبست التجارة بالمشترين ـ وفائدته : المبالغة في تخسيرهم ، لما فيه من الإشعار بكثرة الخسار ، وعمومه المستتبع ، لسرايته إلى ما يلابسهم.
فإن قلت : هب أنّ شراء الضلالة بالهدى وقع مجازا في معنى الاستبدال ، فما معنى ذكر الربح ، والتجارة كأنّ ثمّ مبايعة على الحقيقة؟
قلت : هذا من الصنعة البديعة التي تبلغ بالمجاز الذروة العليا ، وهو أن تساق كلمة مساق المجاز ، ثم تقفّى بأشكال لها ، وأخوات ـ إذا تلاحقن ـ لم تر كلاما أحسن منه ديباجة ، وأكثر ماء ورونقا ، وهو المجاز المرشّح ، فإيرادهما ـ إثر الاشتراء ـ تصوير لما فاتهم من فوائد الهدى بصورة خسار التجارة ـ الذي يتحاشى عنه كل أحد ـ للإشباع في التخسير والتحسير. وهذا النوع قريب من التتميم الذي يمثله أهل صناعة البديع بقول الخنساء :
وإنّ صخرا لتأتمّ الهداة به |
|
كأنه علم في رأسه نار ..! |
لمّا شبّهته ـ في الاهتداء به ـ بالعلم المرتفع ، أتبعت ذلك ما يناسبه ويحقّقه ، فلم تقنع بظهور الارتفاع حتى أضافت إلى ذلك ظهورا آخر ، باشتعال النار في رأسه.
وقوله : (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) أي : لزوال استعدادهم ، وتكدير قلوبهم بالرّين الموجب للحجاب والحرمان الأبديّ.
قال الزمخشريّ : فإن قيل : لم عطف بالواو عدم اهتدائهم على انتفاء ربح تجارتهم ، ورتّبا معا بالفاء على اشتراء الضلالة بالهدى؟ وما وجه الجمع بينهما ـ مع ذلك الترتيب ـ على أن عدم الاهتداء قد فهم من استبدال الضلالة بالهدى ، فيكون تكرارا لما مضى؟