يكون المعنى : هو مبدء كل موجود وغاية كل مقصود ، أو هو المتوحد في الالوهية ، أو في صفات الكمال ، كما إذا قيل لك : هذا أول من زارك أو آخرهم؟ فتقول : هو الاول والآخر ، وتريد أنه لا زائر سواه ، أو هو الاول والآخر بالنسبة إلى كل حي ، بمعنى أنه يبقى بعد موت جميع الاحياء ، أو هو الاول خلقا والآخر رزقا ، كما قال : « خلقكم ثم رزقكم » (١) وبالجملة فليس المراد أنه آخر كل شئ بحسب الزمان للاتفاق علي أبدية الجنة ومن فيها.
الثالث قوله تعالى : « كل شئ هالك إلا وجهه » (٢) فإن المراد به الانعدام ، لا الخروج عن كونه منتفعا به لان الشئ بعد التفرق يبقى دليلا على الصانع ، وذلك من أعظم المنافع. واجيب بأن المعنى أنه هالك في حد ذاته لكونه ممكنا لا يستحق الوجود إلا بالنظر إلى العلة ، أو المراد بالهلاك الموت ، أو الخروج عن الانتفاع المقصود به اللائق بحاله كما يقال : هلك الطعام إذا لم يبق صالحا للاكل وإن صلح لمنفعة اخرى ، ومعلوم أن ليس مقصود الباري تعالى من كل جوهر الدلالة عليه وإن صلح لذلك كما أن من كتب كتابا ليس بكل كلمة الدلالة على الكاتب ، أو المراد الموت كما في قوله تعالى : « إن امرؤ هلك » وقيل : معناه : كل عمل لم يقصد به وجه الله تعالى فهو هالك أي غير مثاب عليه.
الرابع قوله تعالى : « وهو الذي يبدؤ الخلق ثم يعيده (٣) كما بدأنا أول خلق نعيده (٤) » والبدؤ من العدم فكذا العود ، وأيضا إعادة الخلق بعد إبدائه لا يتصور بدون تخلل العدم ، واجيب بأنا لا نسلم أن المراد بإبداء الخلق الايجاد والاخراج عن العدم ، بل الجمع والتركيب على ما يشعر به قوله تعالى : « وبدأ خلق الانسان من طين » ولهذا يوصف بكونه مرئيا مشاهدا كقوله تعالى : « أو لم يروا كيف يبدئ الله الخلق » (٥) « أو لم يسيروا في الارض فينظروا كيف بدء الخلق » وأما القول بأن الخلق حقيقة في التركيب تمسكا بمثل قوله تعالى : « خلقكم من تراب » (٦) أي ركبكم « وتخلقون إفكا » (٧) أي تركبونه ، فلا يكون حقيقة في الايجاد دفعا للاشتراك فضعيف جدا ، لاطباق
__________________
(١) الروم : ٤٠.
(٢) القصص : ٨٨. (٣) الروم : ٢٧.
(٤) الانبياء : ١٠٤.
(٤) الانبياء : ١٠٤.
(٥) العنكبوت : ١٩. (٦) فاطر : ١٣. (٧) العنكبوت : ١٧.