الخامس : اعلم أنه لا خلاف بين المتكلمين في وجوب التوبة سمعا ، واختلفوا في وجوبها عقلا ، فأثبته المعتزلة لدفعها ضرر العقاب. قال الشيخ البهائي رحمه الله : هذا لا يدل على وجوب التوبة عن الصغائر ممن يجتنب الكبائر لكونها مكفرة ، ولهذا ذهبت البهشمية (١) إلى وجوبها عن الصغائر سمعا لا عقلا ، نعم الاستدلال بأن الندم على القبيح من مقتضيات العقل الصحيح يعم القسمين ، وأما فورية الوجوب فقد صرح بها المعتزلة ، فقالوا : يلزم بتأخيرها ساعة إثم آخر ، تجب التوبة منه أيضا ، حتى أن من أخر التوبة عن الكبيرة ساعة واحدة فقد فعل كبيرتين ، وساعتين أربع كبائر : الاولتان وترك التوبة عن كل منهما ، وثلاث ساعات ثمان كبائر وهكذا ، وأصحابنا يوافقونهم على الفورية ، لكنهم لم يذكروا هذا التفصيل فيما رأيته من كتبهم الكلامية.
السادس : سقوط العقاب بالتوبة مما أجمع عليه أهل الاسلام ، وإنما الخلاف في أنه هل يجب على الله حتى لو عاقب بعد التوبة كان ظلما ، أو هو تفضل يفعله سبحانه كرما منه ورحمة بعباده؟ فالمعتزلة على الاول ، والاشاعرة على الثاني ، وإلى الثاني ذهب شيخ الطائفة في كتاب الاقتصاد ، والعلامة الحلي رحمه الله في بعض كتبه الكلامية وتوقف المحقق الطوسي طاب ثراه في التجريد ، ومختار الشيخين هو الظاهر من الاخبار وأدعية الصحيفة الكاملة وغيرها ، وهو الذي اختاره الشيخ الطبرسي رحمه الله ، ونسبه إلى أصحابنا كما عرفت ، ودليل الوجوب ضعيف مدخول ، كما لا يخفى على من تأمل فيه.
أقول : أثبتنا بعض أخبار التوبة في باب الاستغفار ، وباب صفات المؤمن ، وباب صفات خيار العباد وباب جوامع المكارم ، وسيأتي تحقيق الكبائر والصغائر والذنوب وأنواعها وحبط الصغائر بترك الكبائر في أبوابها إن شاءالله تعالى.
__________________
(١) اتباع أبى على وأبى هاشم الجبائيين ، وهؤلاء فرقة من المعتزلة ، انفردوا عنهم بامور كاتبات إرادات حادثة لا في محل يكون البارى تعالى بها موصوفا ، وتعظيما لا في محل إذا أراد أن يعظم ذاته ، وفناء لا في محل إذا أراد أن يفنى العالم ، وقالا : بأنه تعالى متكلم بكلام يخلقه في محل وحقيقة الكلام أصوات مقطعة ، وحروف منظومة ، والمتكلم من فعل الكلام ، وقالا بأنه تعالى لا يرى بالابصار في دار القرار ، وإن المعرفة وشكر المنعم ومعرفة الحسن والقبح واجبات عقلية وأن الذم والعقاب ليسا على الفعل ، وإن التوبة لا تصح من العاجز بعد العجز عن مثله إلى غير ذلك مما هو مذكور في تراجم الفرق ، وكتب الملل والنحل ، كالملل للشهرستانى ، والفرق بين الفرق للبغدادي.