إن الزهد في الشيء الإعراض عنه ، وإنما يكون للزهد شأن يكسب الزاهد فضلا اذا كان المزهود فيه ذا قيمة وثمن كبير ، وأمّا اذا كان المزهود فيه بخسا لا شأن له يحتسب ، ولا قدر يعرف فلا فضل في الزهد فيه ، أترى أن الزهد في الشابّة النضرة الخلوق التي جمعت ضروب المحاسن والجمال وفنون الآداب والكمال ، مثل الزهد في الشوهاء السوداء العجوز؟ ولا سواء.
فإنما يكون الزهد في الدنيا والإعراض عن لذائذها وشهواتها ذا شأن يزيد المرء قدرا ورفعة ، ويكشف عن نفس زكيّة نقيّة ، إذا نظرها فوجدها حسناء فاتنة الشمائل ، فولاّها ظهره معرضا عن جمالها ، صافحا عن محاسنها طالبا بهذا الإعراض ما هو أفضل عند الله وأطيب ، وأمّا اذا تجلّت لديه سافرة النقاب مجرّدة الثياب ، واختبرها معاشرة وصحبة ، فرآها شوهاء عجفاء ، بارزة العيوب ، قبيحة المنظر ، سيّئة المخبر والمعشر ، لا تفي بوعد ، ولا تركن الى عهد ، ولا تصدق بقول ، ولا تدوم على حال ، ولا يسلم منها صديق ، فكيف لا يقلاها ساخطا عليها متوحّشا منها ، وكيف لا ينظرها بمؤخّر عينيه نظر المحتقر الملول.
وإننا على قصر نظرنا ، وقرب غورنا ، لنعرف حقّا أن حياتنا هذه وإن طالت صائرة إلى فناء ، وعيشنا وإن طاب آئل الى نكد ، وإننا سوف ننتقل من هذه الدار البائدة الى تلك الدار الخالدة ، ومن هذا العيش الوبيل الى ذلك العيش الرغيد ، وإن كلّ لذّة في هذه الحياة محفوفة بالمكاره ، وكلّ عيش مشوب بالكدر ، وإن هذه الأيام الزائلة مزرعة لهاتيك الأيام الباقية ، وهل يحصد المرء غير ما يزرع ، ويجازي بغير ما يفعل ، وهل يجمل بالعاقل البصير أن يفتن بمثل هذه الحياة واللذائذ؟.