ومنها : أنّ المبدأ الخيّر لا يصدر منه إلاّ الخير ، ولا يصدر منه الشرّ لعدم السنخية ، وعقاب المجرم شرّ ، فكيف يصدر منه؟ وهذا الإشكال جار حتى على الوجه الأوّل ـ أعني كونه من لوازم الأفعال ـ إذ لا بدّ من خلوّ النظام عن الشرّ.
والجواب : أن اللازم خلو النظام عن الشرّ بالذات ، وأما الشر بالعرض ـ الذي كان بالذات خيرا ـ فلا مانع من صدوره عن الخير المحض ، وإفاضة العقاب الدائم على أهله ـ كإفاضة الثواب الدائم على أهله ـ عين العدل والصواب ؛ لأنّها إفاضة محضة من حيث اقتضاء المورد القابل ، والشيء لا ينافي مقتضاه ، بل يلائمه وإن كان العذاب الجسماني ـ من حيث تفرّق الاتصال المنافر (١) للبدن ـ شرّا بالإضافة إليه ، إلاّ أنه بالعرض.
ومنها : أنّ إيجاد من سيوجد منه الموبقات والمهلكات ، أو إيجاد نفس الموجبات لأنواع العقوبات على أيدي العباد ، مناف لرحمة ربّ الأرباب.
وتحقيق الجواب بتمهيد مقدمات نافعة :
الاولى ـ أنّ لكلّ ماهيّة من الماهيّات ـ في حدّ ذاتها ـ حدّا ماهويّا ؛ بحيث لو زيد عليه أو نقص عنه لخرجت تلك الماهية عن كونها هي ، وكانت ماهيّة اخرى ، مثلا : ماهية الشجر جوهر ممتدّ نام ، فلو زيد على هذا الحدّ الماهوي ( الحسّاسية ) خرجت عن كونها ماهية الشجر ، وكانت ماهية الحيوان. كما أنّه لو نقص عن الحدّ المذكور ( النامي ) خرجت عن الشجرية ، ودخلت في الجماد. وهكذا الأمر في الماهيات الأخر ، فلكلّ ماهيّة وجدان وفقدان.
__________________
(١) لقد تكرّر من المصنف قدسسره ومن كثير من علمائنا الأبرار ( رضي الله عنهم ) اشتقاق ( نافر ومنافرة ومنافر ... الخ ) من النفرة بمعنى عدم الملاءمة والانسجام ، ولم ترد هذه الاشتقاقات من هذا الأصل ، بل وردت المنافرة في اللغة بمعنى المفاخرة والمحاكمة. فراجع.