.................................................................................................
______________________________________________________
فما السبيل إلى تمييز أحدهما من الآخر؟
الجواب : أعلم أن النائم غير كامل العقل ، لأن النوم ضرب من السهو ، والسهو ينفى العلوم ، ولهذا يعتقد النائم الاعتقادات الباطلة ، لنقصان عقله وفقد علومه ، وجميع المنامات إنما هي اعتقادات يبتدئ بها النائم في نفسه ، ولا يجوز أن تكون من فعل غيره فيه ، لأن من عداه من المحدثين سواء كانوا بشرا أو ملائكة أو جنى أجسام ، والجسم لا يقدر أن يفعل في غيره اعتقادا ابتداء ، بل ولا شيئا من الأجناس على هذا الوجه ، وإنما يفعل ذلك في نفسه على سبيل الابتداء ، وإنما قلنا أنه لا يفعل في غيره جنس الاعتقادات متولدا ، لأن الذي يعدي الفعل من محل القدرة إلى غيرها من الأسباب إنما هو الاعتمادات ، وليس في جنس الاعتمادات ما يولد الاعتقادات ، ولهذا لو اعتمد أحدنا على قلب غيره الدهر الطويل ما تولد فيه شيء من الاعتقادات وقد بين ذلك وشرح في مواضع كثيرة ، والقديم تعالى هو القادر أن يفعل في قلوبنا ابتداء من غير سبب أجناس الاعتقادات ، ولا يجوز أن يفعل في قلب النائم اعتقادا لأن أكثر اعتقادات النائم جهل ويتأول الشيء على خلاف ما هو به ، لأنه يعتقد أنه يرى ويمشي وأنه راكب وعلى صفات كثيرة ، وكل ذلك على خلاف ما هو به ، وهو تعالى لا يفعل الجهل ، فلم يبق إلا أن الاعتقادات كلها من جهة النائم.
وقد ذكر في المقالات : أن المعروف ـ بصالح قبة كان يذهب إلى أن ما يراه النائم في منامه على الحقيقة ، وهذا جهل منه (١) ، يضاهي جهل السوفسطائية ، لأن النائم يرى أن رأسه مقطوع ، وأنه قد مات وأنه قد صعد إلى السماء ونحن نعلم ضرورة خلاف ذلك كله ، وإذا جاز عند صالح هذا أن يعتقد اليقظان في السراب أنه ماء. وفي المردي (٢) إذا كان في الماء أنه مكسور ، وهو على الحقيقة صحيح ، لضرب من الشبهة واللبس ، فإلا جاز ذلك في النائم ، وهو من الكمال أبعد ، ومن النقص أقرب.
__________________
(١) في المصدر : وهذا جهل منه أيضا ، هو جهل السوفسطائية.
(٢) المُرديّ : بضمّ الميم ، خشبة يدفع بها الملاّح السفينة « المجداف ».