لمؤمن بالله حق إيمانه أن يرده أو يعترض عليه أو يمله أو يسوءه بوجه من وجوه المساءة فكل ذلك شرك على مراتبه ، وقد قال تعالى : ( وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ) : « يوسف : ١٠٦ ».
قوله تعالى : « وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ » إلى قوله : « ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ » قد تقدم في قوله : ( وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً ) نساء ٤ إن هذا التركيب يدل على أن الحكم للهيئة الاجتماعية من الأفراد وهو المجتمع ، وأن الاستثناء لدفع توهم استغراق الحكم واستيعابه لجميع الأفراد ، ولذلك كان هذا الاستثناء أشبه بالمنفصل منه بالمتصل أو هو برزخ بين الاستثنائين : المتصل والمنفصل لكونه ذا جنبتين.
على هذا فقوله « ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ » وارد مورد الإخبار عن حال الجملة المجتمعة أنهم لا يمتثلون الأحكام والتكاليف الحرجية الشاقة التي تماس ما يتعلق به قلوبهم تعلق الحب الشديد كنفوسهم وديارهم ، واستثناء القليل لدفع التوهم.
فالمعنى : ولو أنا كتبنا أي فرضنا عليهم قتل أنفسهم والخروج من ديارهم وأوطانهم المألوفة لهم ما فعلوه أي لم يمتثلوا أمرنا ، ثم لما استشعر أن قوله : ما فعلوه يوهم أن ليس فيهم من هو مؤمن حقا مسلم لحكم الله حقيقة دفع ذلك باستثناء القليل منهم ، ولم يكن يشمله الحكم حقيقة لأن الإخبار عن حال المجتمع من حيث إنه مجتمع ولم تكن الأفراد داخلة فيه إلا بتبع الجملة.
ومن هنا يظهر أن المراد قتل الجملة الجملة وخروج الجملة وجلاؤهم من جملة ديارهم كالبلدة والقرية دون قتل كل واحد نفسه ، وخروجه من داره كما في قوله تعالى : ( فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) : « البقرة : ٥٤ » ، فإن المقصود بالخطاب هو الجماعة دون الأفراد.
قوله تعالى : « وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً » في تبديل الكتابة في قوله : ( وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ ) ، بالوعظ في قوله : ( ما يُوعَظُونَ بِهِ ) إشارة إلى أن هذه الأحكام الظاهرة في صورة الأمر والفرض ليست إلا إشارات إلى ما فيه صلاحهم وسعادتهم فهي في الحقيقة مواعظ ونصائح يراد بها خيرهم وصلاحهم.
وقوله : ( لَكانَ خَيْراً لَهُمْ ) أي في جميع ما يتعلق بهم من أولاهم وأخراهم ، وذلك أن خير الآخرة لا ينفك من خير الدنيا بل يستتبعه ، وقوله : « وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً » أي