أراد سبحانه ليبلو عباده أيّهم أشدّ مخالفة لأمره ، وحذراً من زروه ومكره ، وتباعداً من موبقات زخارفه ، وفراراً من موديات مواقفه ، فصدق اللعين عليهم ظنّه ، زيّن لهم ما فرض عليهم وسنّه ، فاتّبعوه إلا فريقاً من المؤمنين ، وعبدوه إلا قليلاً من المخلصين ، واتّخذوه ربّاً دون خالقهم ، وابتغوا عنده الرزق دون رازقهم ، ونصروا أولياءه ، وقهروا أعداءه ، وذهبوا بهم كلّ مذهب ، وسدّوا عليهم كلّ مطلب ، واتّخذوا الأوثان أرباباً ، والأصنام أنصاباً ، وقتلوا النبيّين ، وفتنوا المؤمنين.
فهم أبناؤه المخلصون في طاعته ، والمناصحون في متابعته ، زيّن لهم دينه ، فاتّبعوا قوله وفعله ، وموّه لهم سبيله ، فاتّخذوه وجهة وقبلةً ، وبحروا له البحيرة ، وسيّبوا السايبة ، ووصلوا الوصيلة بأحلامهم العازبة ، فالصبور الشكور نوح ، والخليل والكليم والروح ، كم نصبت أسلافهم لهم العداوة والبغضاء ، وأغرت أخلاقهم بهم السفهاء؟ حتى نادى نوح : ربّ ( أنّي مَغلُوبٌ فَانتَصِر ) (١) ، واُلقي الخليل في نار ضرامها يستعر ، وفرّ الكليم من الظالم الأشر ، وابن مريم لولا انّ الله تعالى رفعه إلى سمائه لأحلّوا به الشيء النكر.
ثمّ لم يزل الأشرار من أشياعه ، والفجّار من أتباعه ، والأرجاس من ذرّيّته ، والأوغاد من حفدته ، ترفع بالأنبياء (٢) أوصياءهم ، وتقصد بالأذى المخلصين من أوليائهم ، إلى أن انتهت النوبة إلى سيّد المرسلين ، وخاتم النبيّين ، فنصبوا له غوائلهم ، وفوّقوا نحوه معابلهم ، حتى قتلوا في بدر واُحد أهله ، وراموا بجدّهم وجمعهم قتله ، وأخرجوه عن عقر داره ، وطردوه عن محلّ قراره ، وحزّبوا أحزابهم على حربه ، وركبوا الصعب والذلول في طلبه ، وضربوا بطون
__________________
١ ـ سورة القمر : ١٠.
٢ ـ كذا في الأصل.