في ذلك المقام بعينه إذا أراد الموعظة بكلام يدلّ على أنّ طبعه مشابه لطباع الرهبان لابسي المُسوح الّذين يأكلون لحماً ، ولم يريقوا (١) دماً قطّ ، فتارة يكون في صورة سقراط الحبر اليونانيّ ، ويوحنّا المعمدان الإسرائيلي ، وعيسى بن مريم الإلهيّ ، وتارة يكون في صورة عتيبة بن الحارث اليربوعيّ ، وعامر بن الطفيل العامريّ ، وبسطان بن قيس الشيبانيّ.
واُقسم بالذي تقسم الاُمم كلّها به ؛ لقد تلوت هذه الخطبة منذ خمسين سنة وإلى الآن أكثر من ألف مرّة ، وما تلوتها مرّة إلا وأحدثت في قلبي وجيباً ، وفي أعضائي رعدة ، وخيّل لي مصارع من مضى من أسلافي ، وتصوّرت في نفسي أنّي أنا ذلك الشخص الذي وصف أمير المؤمنين صلوات الله عليه في قوله :
فكم أكلت الأرض من عزيز جسدٍ ، وأنيق لون كان في الدنيا غذيّ ترف ، وربيب شرف ، إلى آخرها (٢)؟
وكم قال الناس ، وكم سمعت ، وما دخل كلام ما دخل هذا الكلام من قلبي (٣) ، فإمّا أن يكون ذلك لفرط حبّي لصاحبه ، أو أنّ نيّة القائل كانت صادقة ، ويقينه ثابت ، فصار لكلامه تأثير في النفوس. (٤)
وقال أيضاً الفاضل ابن ابي الحديد عند شرحه كلامه صلوات الله عليه في خطبة الأشباح (٥) : عالم السر من ضمائر (٦) المضمرين ، إلى آخر الفصل : لو
__________________
١ ـ كذا في شرح النهج ، وفي الأصل : يرتعوا.
٢ ـ نهج البلاغة ( صبحي الصالح ) : ٢٤٠ خطبة رقم ٢٢١.
٣ ـ في شرح النهج : فلم أجد لشيء منه مثل تأثير هذا الكلام في نفسي.
٤ ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ١١ / ١٥٢ ـ ١٥٣.
٥ ـ نهج البلاغة ( صبحي الصالح ) : ١٣٤ خطبة رقم ٩١.