وأنزلت عليكم الكتب ، وأزلت عنكم الشّبه ، ولم يبق لكم حجة كما قال : «لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ» وقال : «وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً» فكذبتم بها ، وأعرضتم عنها ، وآذيتم من جاء بها.
ونحو الآية قوله : «كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ».
ثم ذكر جوابهم عن ذلك فقال :
(قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ) أي قالوا قد قامت علينا الحجة ولم ننقد لها ، لسوء استعدادنا وتغلّب شهواتنا ، ولما دسّينا به أنفسنا من الآثام والمعاصي ومن ثم ضللنا طريق الهدى ، ولم نتبع الحق.
ونحو الآية قوله «فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ».
والخلاصة ـ إنا كنا نعرف الحق ، ولكن العادة وخشية الناس ملكتا علينا أمرنا ، فلم نقدر على الخلاص مما نحن فيه ، وما مثلنا إلا مثل شاربى الخمر والتّبغ والمولعين بحب الكبرياء والعظمة والمغرمين بالإسراف ، فإنهم يعرفون أضرارها ، ثم لا يجدون سبيلا إلى تركها ولا للبعد عنها.
وبعدئذ حكى دعاءهم ربّهم أن يخرجهم منها : وقولهم فإن عدنا كنا ظالمين فقال :
(رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ) أي قالوا ربنا أخرجنا من النار ، وارددنا إلى الدنيا ، فإن عدنا إلى مثل ما سلف منا من الشرور والآثام كنا ظالمين لأنفسنا جديرين بالعقوبة.
ثم ذكر ما أجيبوا به عن طلبهم هذا فقال :
(قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) أي قال امكثوا فيها أذلاء صاغرين واسكتوا ، ولا تعودوا إلى مثل سؤالكم هذا ، فإنه لا رجعة لكم إلى الدنيا ، وإنما يكلمنى من سمت نفسه إلى عالم الأرواح ، ولبس رداء الخوف والخشية من ربه ، واحتقر الدنيا وشهواتها ، وعزف عنها ، لما يرجوه من ربه من ثواب عميم ، ونعيم مقيم.