واعلم أن المؤكد لغيره في الحقيقة مؤكد لنفسه ، وإلا فليس بمؤكد ، لأن معنى التأكيد تقوية الثابت بأن تكرره ، وإذا لم يكن الشيء ثابتا فكيف يقوّى؟ وإذا كان ثابتا فمكرره إنما يؤكد نفسه.
وبيان كونه مؤكدا لنفسه أن جميع الأمثلة الموردة للمؤكد لغيره ، إما صريح القول أو ما هو في معنى القول ، قال تعالى : (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ)(١) ، وقولهم : هذا القول لا قولك ، أي هذا هو القول الحق لا أقول مثل قولك ، إنه باطل ، وهذا زيد غير ما تقول ، «ما» فيه مصدرية ، أي قولا غير قولك ، ومعنى هذا زيد كمعنى قوله :
أنا أبو النجم وشعري شعري (٢) ـ ـ ٧٠
أي هذا هو ذلك المشهور الممدوح ، لا كما تقول في حقه من ضد ذلك ، وقولك : هذا زيد حقا أي قولا حقا ؛ وكذا : هذا عبد الله حقا ، والحقّ لا الباطل ، وكذا قول أبي طالب :
٩٠ ـ إذن لاتبعناه على خير حالة |
|
من الدهر جدّا غير قول التهازل (٣) |
أي قولا جدا ، وكذا قولك : لأفعلتّه البتة ، أي قطعت بالفعل وجزمت به قطعة واحدة ، والمعنى : أنه ليس فيه تردد بحيث أجزم به ثم يبدو لي ثم أجزم به مرة أخرى ، فيكون قطعتان أو أكثر بل هو قطعة واحدة لا يثنىّ فيها النظر ، وكذا قولهم : افعله البتة ، أي جزمت بأن تفعله وقطعت به قطعة ، فالبتة بمعنى القول المقطوع به ، وكأن اللام فيها في الأصل للعهد أي القطعة المعلومة التي لا تردد فيها (٤).
__________________
(١) الآية ٣٤ من سورة مريم.
(٢) تقدم هذا الشاهد في ص ٢٥٥ من هذا الجزء.
(٣) الضمير في قوله : لاتبعناه راجع إلى النبي محمد عليه الصلاة والسّلام والبيت من قصيدة منسوبة في سيرة ابن هشام لأبي طالب بن عبد المطلب عم النبي. وقد أوردها البغدادي وشرحها وهي تتضمن دفاعا عن النبي وذما في أعدائه الذين آذوه ، وفيها يقول :
كذبتم وبيت الله نبزى محمدا |
|
ولما نطاعن دونه ونقاتل |
نبزى محمدا أي نغلب عليه ويؤخذ منا. وبيت الشاهد جواب قسم في قوله في بيت قبله :
فو الله لو لا أن أجيء بسبة |
|
تجر على أشياخنا في المحافل |
(٤) وقالوا ان همزتها لم تسمع إلا بالقطع والقياس وصلها. ولا شك أنه أولى في الاستعمال.