__________________
وفى المسألة أربعة مذاهب : المنع مطلقا ، وهو مذهب سيبويه وجمهور البصريين ، قالوا : لأنه يؤدى إلى إقامة حرف العطف مقام عاملين وهو لا يجوز ؛ لأنه لو جاز فى عاملين لجاز فى ثلاثة ، ولا قائل به ، ولأن حرف العطف ضعيف فلا يقوى أن ينوب عن عاملين ، ولأن القائل بجواز ذلك يستضعفه ، والأحسن عنده ألا يجوز ؛ فلا ينبغى أن يحمل عليه كتاب الله ، ولأنه بمنزلة التّعديتين بمعدّ واحد وهو غير جائز.
قال ابن السراج : العطف على عاملين خطأ فى القياس غير مسموع من العرب ، ثم حمل ما فى هذه الآية على التكرار للتأكيد. قال الرّمّانىّ : هو كقولك : إنّ فى الدار زيدا والبيت زيدا ؛ فهذا جائز بإجماع. فتدبّر هذا الوجه الذى ذكره ابن السراج ؛ فإنه حسن جدا ، لا يجوز أن يحمل كتاب الله إلا عليه ، وقد يثبت القراءة بالكسر ولا عيب فيها فى القرآن على وجه ، والعطف على عاملين عيب عند من أجازه ومن لم يجزه فقد تناهى فى العيب ؛ فلا يجوز حمل هذه الآية إلا على ما ذكره ابن السراج دون ما ذهب إليه غيره.
قلت : وهذا الحصر منه غير مسلّم ؛ فإن فى الآية تخريجات أخر غير ما ذكره ابن السراج يجوز الحمل عليها. وقال الزجاج : ومثله فى الشعر :
أكلّ امرئ تحسبين امرءا |
|
ونار توقّد باللّيل نارا |
وأنشد الفارسىّ للفرزدق :
وباشر راعيها الصّلا بلبانه |
|
وجنبيه حرّ النّار ما يتحرّق |
وقول الآخر :
وأوصيت من برّة قلبا حرّا |
|
بالكلب خيرا والحماة شرّا |
قلت : أما البيت الأول فظاهر أنه عطف «ونار» على «امرئ» المخفوض بـ «كل» ، ونارا الثانية على «امرءا» الثانى ، والتقدير : وتحسبين كلّ نار نارا ؛ فقد عطف على معمولى عاملين.
والبيت الثانى : عطف فيه «جنبيه» على «بلبانه» ، وعطف حرّ النار على الصّلا ، والتقدير : وباشر بجنبيه حرّ النار.
والبيت الثالث : عطف فيه «الحماة» على الكلب وشرّا على «خيرا» تقديره : وأوصيت بالحماة شرّا. وسيبويه في جميع ذلك يرى الجرّ بخافض مقدر ، لكنه عورض بأنّ إعمال حرف لجر مضمرا ضعيف جدّا ؛ ألا ترى أنه لا يجوز : مررت زيد؟ بخفض زيد إلّا فى ضرورة كقوله :
إذا قيل أىّ النّاس شرّ قبيلة |
|
أشارت كليب بالأكفّ الأصابع |
يريد : إلى كليب ، وقوله :
... |
|
حتّى تبذّخ فارتقى الأعلام |
أى إلى الأعلام ؛ فقد فرّ من شىء ووقع فى أضعف منه.
وأجيب عن ذلك : بأنه لما تقدّم ذكر الحرف فى اللفظ قويت الدلالة عليه ؛ فكأنه ملفوظ به ما أوردتموه فى المثال والشعر.
والمذهب الثانى : التفصيل وهو مذهب الأخفش ؛ ذلك أنه لا يجوز إلا بشرطين :
أحدهما : أن يكون أحد العاملين جارّا.