وأن يستعمل اللفظ الغريب ، والكلمة الوحشيّة ، فإن استظهر للأمر وبالغ في النظر ، فأن لا يلحن فيرفع في موضع النصب ، أو يخطئ فيجيء باللفظة على غير ما هي عليه في الوضع اللغويّ ، وعلى خلاف ما ثبتت به الرواية عن العرب.
وجملة الأمر أنه لا يرى النقص يدخل على صاحبه في ذلك ، إلّا من جهة نقصه في علم اللغة ، لا يعلم أن هاهنا دقائق وأسرارا طريق العلم بها الرّويّة والفكر ، ولطائف مستقاها العقل ، وخصائص معان ينفرد بها قوم قد هدوا إليها ، ودلّوا عليها ، وكشف لهم عنها ، ورفعت الحجب بينهم وبينها ، وأنّها السبب في أن عرضت المزيّة في الكلام ، ووجب أن يفضل بعضه بعضا ، وأن يبعد الشأو في ذلك ، وتمتدّ الغاية ، ويعلو المرتقى ، ويعزّ المطلب ، حتّى ينتهي الأمر إلى الإعجاز ، وإلى أن يخرج من طوق البشر.
ولما لم تعرف هذه الطائفة هذه الدقائق ، وهذه الخواصّ واللطائف ، لم تتعرّض لها ولم تطلبها ، ثمّ عنّ لها بسوء الاتفاق رأي صار حجازا بينها وبين العلم بها وسدّا دون أن تصل إليها وهو أن ساء اعتقادها في الشعر الذي هو معدنها ، وعليه المعوّل فيها ، وفي علم الإعراب الذي هو لها كالناسب الذي ينميها إلى أصولها ، ويبيّن فاضلها من مفضولها ، فجعلت تظهر الزّهد في كل واحد من النوعين ، وتطرح كلّا من الصنفين ، وترى التشاغل عنهما أولى من الاشتغال بهما ، والإعراض عن تدبرهما أصوب من الإقبال على تعلّمهما.
أما الشّعر فخيّل إليها أنه ليس فيه كثير طائل ، وأن ليس إلّا ملحة (١) أو فكاهة ، أو بكاء منزل أو وصف طلل ، أو نعت ناقة أو جمل ، أو إسراف قول في مدح أو هجاء ، وأنه ليس بشيء تمسّ الحاجة إليه في صلاح دين أو دنيا.
وأما النّحو ، فظنّته ضربا من التكلّف ، وبابا من التعسّف ، وشيئا لا يستند إلى أصل ، ولا يعتمد فيه على عقل ، وأنّ ما زاد منه على معرفة الرّفع والنّصب وما يتّصل بذلك مما تجده في المبادئ ، فهو فضل لا يجدي نفعا ، ولا تحصل منه على فائدة ، وضربوا له المثل بالملح كما عرفت (٢) ، إلى أشباه لهذه الظنون في القبيلين ، وآراء لو علموا مغبّتها وما تقود إليه ؛ لتعوّذوا بالله منها ، ولأنفوا لأنفسهم من الرّضا بها ، ذاك
__________________
(١) وهي الكلمة الطيبة وهي المليحة. اه اللسان. مادة / ملح / (٢ / ٦٠٢).
(٢) وهو قولهم : «النحو في الكلام كالملح في الطعام». إذ المعنى أن الكلام لا يستقيم ولا تحصل منافعه التي هي الدلالات على المقاصد إلّا بمراعاة أحكام النحو من الإعراب والترتيب الخاص.