انكشاف وظهور في أن الأمر كالذي ذكر. وقد قسّمت في أول ما افتتحت القول فيها فقلت : «إنّها تجيء للخبر لا يجهله السامع ولا ينكر صحّته ، أو لما ينزّل هذه المنزلة». وأمّا ما ذكرت من أنها تجيء في الكتب لدلالة المتعلم على ما لم يعلمه ، فإنك إذا تأملت مواقعها وجدتها في الأمر الأكثر قد جاءت لأمر قد وقع العلم بموجبه وبشيء يدلّ عليه.
مثال ذلك : أن صاحب الكتاب قال في باب «كان» :
«إذا قلت : كان زيد ، فقد ابتدأت بما هو معروف عنده مثله عندك ، وإنّما ينتظر الخبر. فإذا قلت : «حليما» ، فقد أعلمته مثل ما علمت. وإذا قلت : «كان حليما» ، فإنما ينتظر أن تعرّفه صاحب الصفة» (١).
وذاك أنّه إذا كان معلوما أنه لا يكون مبتدأ من غير خبر ، ولا خبر من غير مبتدأ ، كان معلوما أنك إذا قلت : «كان زيد» فالمخاطب ينتظر الخبر ، وإذا قلت : «كان حليما» ، أنه ينتظر الاسم ، فلم يقع إذن بعد «إنّما» إلّا شيء كان معلوما للسامع من قبل أن ينتهي إليه.
وممّا الأمر فيه بيّن ، قوله في باب «ظننت» :
«وإنما تحكي بعد «قلت» ما كان كلاما لا قولا» (٢).
وذلك أنه معلوم أنّك لا تحكي بعد «قلت» ، إذا كنت تنحو نحو المعنى ، إلّا ما كان جملة مفيدة ، فلا تقول : «قال فلان زيد» وتسكت ، اللهمّ إلا أن تريد أنّه نطق بالاسم على هذه الهيئة ، كأنك تريد أنه ذكره مرفوعا.
ومثل ذلك قولهم : «إنّما يحذف الشيء إذا كان في الكلام دليل عليه» ، إلى أشباه ذلك مما لا يحصى ، فإن رأيتها قد دخلت على كلام هو ابتداء إعلام بشيء لم يعلمه السامع ، فلأنّ الدليل عليه حاضر معه ، والشيء بحيث يقع العلم به عن كثب. واعلم أنّه ليس يكاد ينتهي ما يعرض بسبب هذا الحرف (٣) من الدقائق.
وممّا يجب أن يعلم : أنه إذا كان الفعل بعدها فعلا لا يصحّ إلّا من المذكور ولا يكون من غيره ، كالتذكّر الذي يعلم أنه لا يكون إلّا من أولي الألباب لم يحسن العطف «بلا» فيه ، كما يحسن فيما لا يختصّ بالمذكور ويصحّ من غيره.
__________________
(١) انظر الكتاب لسيبويه (١ / ٤٧).
(٢) انظر الكتاب لسيبويه (١ / ٦٢).
(٣) الحرف : هو «إنما».