ومما تجدهم يعتمدونه ويرجعون إليه قولهم : «إنّ المعاني لا تتزايد ، وإنّما تتزايد الألفاظ» ، وهذا كلام إذا تأمّلته لم تجد له معنى يصحّ عليه ، غير أن تجعل «تزايد الألفاظ» عبارة عن المزايا التي تحدث من توخّي معاني النحو وأحكامه فيما بين الكلم ، لأن التّزايد في الألفاظ من حيث هي ألفاظ ونطق لسان ، محال.
ثم إنّا نعلم أنّ المزية المطلوبة في هذا الباب ، مزيّة فيما طريقه الفكر والنّظر من غير شبهة ، ومحال أن يكون اللفظ له صفة تستنبط بالفكر ، ويستعان عليها بالرّويّة ، اللهم إلا أن تريد تأليف النّغم ، وليس ذلك مما نحن فيه بسبيل.
ومن هاهنا لم يجز ، إذا عدّ الوجوه التي تظهر بها المزيّة ، أن يعدّ فيها الإعراب ، وذلك أن العلم بالإعراب مشترك بين العرب كلّهم ، وليس هو مما يستنبط بالفكر ، ويستعان عليه بالرويّة. فليس أحدهم ، بأنّ إعراب الفاعل الرفع أو المفعول النصب ، والمضاف إليه الجرّ ، بأعلم من غيره ، ولا ذاك مما يحتاجون فيه إلى حدّة ذهن وقوّة خاطر ، إنّما الذي تقع الحاجة فيه إلى ذلك ، العلم بما يوجب الفاعلية للشيء إذا كان إيجابها من طريق المجاز ، كقوله تعالى : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) [البقرة : ١٦] ، وكقول الفرزدق : [من الطويل]
سقتها خروق في المسامع (١)
وأشباه ذلك ، ممّا يجعل الشيء فيه فاعلا على تأويل يدقّ ، ومن طريق تلطّف ، وليس يكون هذا علما بالإعراب ، ولكن بالوصف الموجب للإعراب.
ومن ثمّ لا يجوز لنا أن نعتدّ في شأننا هذا بأن يكون المتكلّم قد استعمل من اللغتين في الشيء ما يقال «إنه أفصحهما» ، أو بأن يكون قد تحفّظ مما تخطئ فيه العامّة ، ولا بأن يكون قد استعمل الغريب ، لأن العلم بجميع ذلك لا يعدو أن يكون علما باللغة ، وبأنفس الكلم المفردة ، وبما طريقه طريق الحفظ ، دون ما يستعان عليه بالنّظر ، ويوصل إليه بإعمال الفكر. ولئن كانت العامّة وأشباه العامّة لا يكادون يعرفون الفصاحة غير ذلك ، فإن من ضعف النّحيزة (٢) إخطار مثله في الفكر ، وإجراءه في الذّكر ، وأنت تزعم أنك ناظر في دلائل الإعجاز ، أترى أن العرب تحدّوا أن يختاروا الفتح في الميم من «الشّمع» ، والهاء من «النّهر» على الإسكان ، وأن يتحفظوا من
__________________
(١) راجع هامش (١) ص (١٩٦).
(٢) النحيزة : أي الطبيعة. اه القاموس مادة / نحز / (٦٧٧).