الجبل ، وبات العدوّ بحضيضه». فقال الحجاج : ما يزيد بأبي عذر هذا الكلام فقيل له : إن يحيى بن يعمر معه! فأمر بأن يحمل إليه ، فلما أتاه قال : أين ولدت؟ فقال : بالأهواز. فقال : فأنّى لك هذه الفصاحة؟ قال : أخذتها عن أبي» (١).
قال : «ورأيتهم يديرون في كتبهم : أن امرأة خاصمت زوجها إلى يحيى بن يعمر ، فانتهرها مرارا ، فقال له يحيى : أن سألتك ثمن شكرها وشبرك ، أنشأت تطلّها وتضهلها» (٢).
ثم قال : «وإن كانوا إنّما قد رووا هذا الكلام لكي يدلّ على فصاحة وبلاغة ، فقد باعده الله من صفة البلاغة والفصاحة (٣).
واعلم أنك كلّما نظرت وجدت سبب الفساد واحدا ، وهو ظنّهم الذي ظنّوه في «اللّفظ» ، وجعلهم الأوصاف التي تجري عليه كلّها أوصافا له في نفسه ، ومن حيث هو لفظ ، وتركهم أن يميزوا بين ما كان وصفا له في نفسه ، وبين ما كانوا قد كسبوه إيّاه من أجل أمر عرض في معناه. ولما كان هذا دأبهم ، ثم رأوا الناس وأظهر شيء عندهم في معنى «الفصاحة» ، تقويم الإعراب ، والتحفّظ من اللحن ، لم يشكّوا أنّه ينبغي أن يعتدّ به في جملة المزايا التي يفاضل بها بين كلام وكلام في الفصاحة ، وذهب عنهم أن ليس هو من «الفصاحة» التي يعنينا أمرها في شيء ، وأنّ كلامنا في فصاحة تجب للّفظ لا من أجل شيء يدخل في النطق ، ولكن من أجل لطائف تدرك بالفهم ، وأنّا نعتبر في شأننا هذا فضيلة تجب لأحد الكلامين على الآخر ، من بعد أن يكونا قد برئا من اللّحن ، وسلما في ألفاظهما من الخطأ.
ومن العجب أنّا إذا نظرنا في الإعراب ، وجدنا التفاضل فيه محالا ، لأنه لا يتصوّر أن يكون للرفع والنصب في كلام ، مزيّة عليهما في كلام آخر ، وإنما الذي يتصوّر أن يكون هاهنا : كلامان قد وقع في إعرابهما خلل ، ثم كان أحدهما أكثر صوابا من الآخر ، وكلامان قد استمرّ أحدهما على الصّواب ولم يستمرّ الآخر ، ولا يكون هذا تفاضلا في الإعراب ، ولكن تركا له في شيء ، واستعمالا له في آخر ، فاعرف ذلك.
__________________
(١) البيان والتبيين (٣٧٧ / ١ ، ٣٧٨) ، وشرح الجاحظ. عرار الأودية : أسافلها. عرار الجبال : أعاليها.
أهضام الغيطان : مداخلها ، والغيطان : جمع «غائط» وهو الحائط ذو الشجر.
(٢) للجاحظ في البيان والتبيين ١ / ٣٧٨. وفسر الجاحظ المفردات قالوا : «الضهل» : القليل ، و «الشّكر» : الفرج ، والشّبر : النكاح ، و «تطلّها» : تذهب بحقها ، يقال : دم مطلول ، ويقال : «بئر ضهول» أي : قليلة الماء.
(٣) في البيان ١ / ٣٧٨. والفصاحة زيادة من البيان.