كانت «الفصاحة» صفة للفظ «اشتعل» ، لكان ينبغي أن يحسّها القارئ فيه حال نطقه به. فمحال أن تكون للشيء صفة ، ثم لا يصحّ العلم بتلك الصفة إلا من بعد عدمه. ومن ذا رأى صفة يعرى موصوفها عنها في حال وجوده ، حتى إذا عدم صارت موجودة فيه؟ وهل سمع السامعون ، في قديم الدهر وحديثه ، بصفة شرط حصولها لموصوفها أن يعدم الموصوف؟
فإن قالوا : إنّ الفصاحة التي ادّعيناها للفظ «اشتعل» تكون فيه في حال نطقنا به ، إلّا أنّا لا نعلم في تلك الحال أنها فيه ، فإذا بلغنا آخر الكلام علمنا حينئذ أنها كانت فيه حين نطقنا به.
قيل : هذا فنّ آخر من العجب ، وهو أن تكون هاهنا صفة موجودة في شيء ، ثم لا يكون في الإمكان ولا يسع في الجواز ، أن يعلم وجود تلك الصفة في ذلك الشيء إلّا من بعد أن يعدم ، ويكون العلم بها وبكونها فيه محجوبا عنا حتى يعدم ، فإذا عدم علمنا حينئذ أنها كانت فيه حين كان.
ثم إنه لا شبهة في أن هذه الفصاحة التي يدّعونها للّفظ هي مدّعاة لمجموع الكلمة دون آحاد حروفها ، إذ ليس يبلغ بهم تهافت الرأي إلى أن يدعو لكلّ واحد من حروف «اشتعل» فصاحة ، فيجعلوا «الشين» على حدته فصيحا ، وكذلك «التاء» ، و «العين» و «اللام». وإذا كانت الفصاحة مدّعاة لمجموع الكلمة ، لم يتصوّر حصولها لها إلا من بعد أن تعدم كلّها وينقضي أمر النطق بها. ذاك لأنه لا يتصوّر أن تدخل الحروف بجملتها في النطق دفعة واحدة ، حتى تجعل «الفصاحة» موجودة فيها في حال وجودها. وما بعد هذا إلا أن نسأل الله تعالى العصمة والتوفيق ، فقد بلغ الأمر في الشّناعة إلى حدّ ، إذا تنبّه العاقل لفّ رأسه حياء من العقل ، حين يراه قد قال قولا هذا مؤدّاه ، وسلك مسلكا إلى هذا مفضاه.
وما مثل من يزعم أن «الفصاحة» صفة للّفظ من حيث هو لفظ ونطق لسان ، ثم يزعم أنه يدّعيها لمجموع حروفه دون آحادها ، إلّا مثل من يزعم أن هاهنا غزلا إذا نسج منه ثوب كان أحمر ، وإذا فرّق ونظر إليه خيطا خيطا ، لم تكن فهي حمرة أصلا! ومن طريق أمرهم ، أنك ترى كافّتهم لا ينكرون أن اللّفظ المستعار إذا كان فصيحا ، كانت فصاحته تلك من أجل استعارته ، ومن أجل لطف وغرابة كانا فيها ، وتراهم مع ذلك لا يشكّون في أن الاستعارة لا تحدث في حروف اللّفظ صفة ولا تغير أجراسها عما تكون عليه إذا لم يكن مستعارا وكان متروكا على حقيقته ، وأن التأثير من الاستعارة