فإن قال قائل : إن المزيّة من أجل أنّ المساواة تعلم في «رأيت أسدا» من طريق المعنى ، وفي «رأيت رجلا مساويا للأسد» من طريق اللفظ.
قيل : قد قلنا فيما تقدم ، إنه محال أن يتغير حال المعنى في نفسه ، بأن يكنى عنه بمعنى آخر وأنه لا يتصوّر أن يتغيّر معنى طول القامة بأن يكنى عنه بطول النّجاد ، ومعنى كثرة القرى بأن يكنى عنه بكثير الرّماد. وكما أنّ ذلك لا يتصوّر ، فكذلك لا يتصوّر أن يتغير معنى مساواة الرّجل الأسد في الشجاعة ، بأن يكنى عن ذلك ويدلّ عليه بأن تجعله «أسدا». فأنت الآن إذا نظرت إلى قوله : [من البسيط]
فأسبلت لؤلؤا من نرجس ، وسقت |
|
وردا ، وعضّت على العنّاب بالبرد (١) |
فرأيته قد أفادك أن «الدّمع» كان لا يخرم من شبه اللؤلؤ ، و «العين» من شبه النرجس شيئا ، فلا تحسبنّ أن سبب الحسن الذي تراه فيه ، والأريحية التي تجدها عنده ، أنه أفادك ذلك فحسب. وذاك أنك تستطيع أن تجيء به صريحا فتقول : «فأسبلت دمعا كأنه اللّؤلؤ بعينه ، من عين كأنها النّرجس حقيقة» ، ثم لا ترى من ذلك الحسن شيئا. ولكن اعلم أنّ سبب أن راقك ، وأدخل الأريحيّة عليك ، أنه أفادك في إثبات شدّة الشبه مزيّة ، وأوجدك فيه خاصّة قد غرز في طبع الإنسان أن يرتاح لها ، ويجد في نفسه هزّة عندها ، وهكذا حكم نظائره كقول أبي نواس : [من السريع]
تبكي فتذري الدّرّ عن نرجس ، |
|
وتلطم الورد بعنّاب (٢) |
وقول المتنبي : [من الوافر]
بدت قمرا ، ومالت خوط بان ، |
|
وفاحت عنبرا ، ورنت غزالا (٣) |
واعلم أن منشأ «الاستعارة» أنك كلما زدت إرادتك التشبيه إخفاء ، ازدادت الاستعارة حسنا ، حتى إنك تراها أغرب ما تكون إذا كان الكلام قد ألّف تأليفا إن
__________________
(١) البيت للوأواء الدمشقي ، في ديوانه ، ويروى : «فأمطرت» بدل «فأسبلت» وهي الرواية المشهورة.
(٢) البيت في ديوانه (٣٤٩) ، من أربعة أبيات قالها في جنان وهي :
يا قمرا أبرزه مأتم |
|
يندب شجوا بين أتراب |
يبكي فيذري الدر من نرجس |
|
ويلطم الورد بعناب |
أبرزه المأتم لي كارها |
|
برغم بواب وحجاب |
لا زال موتا دأب أحبابه |
|
وكان إن أبصره وابى |
(٣) البيت للمتنبي في ديوانه (١ / ١٨٤) ، من قصيدة في مدح أبي الحسين بدر بن عمار بن إسماعيل الأسدي الطبرستاني ومطلعها :
بقائي شاء ليس هم ارتحالا |
|
وحسن الصبر زموا لا الجمالا |
تولوا بغتة فكأن بينا |
|
تهيبني ففاجأني اغتيالا |
بدت : ظهرت ، الخوط : الغصن الناعم ، رنت : نظرت. راجع البيت ص (٢٠٢) هامش (٢).