وكذلك قولهم : «لفظ ليس فيه فضل عن معناه» ، محال أن يكون المراد به «اللّفظ» ، لأنه ليس هاهنا اسم أو فعل أو حرف يزيد على معناه أو أن ينقص عنه. كيف؟ وليس بالذّرع وضعت الألفاظ على المعاني.
وإن اعتبرنا المعاني المستفادة من الجمل ، فكذلك. وذلك أنه ليس هاهنا جملة من مبتدأ وخبر أو فعل وفاعل ، يحصل بها الإثبات أو النّفي ، أتمّ أو أنقص مما يحصل بأخرى. وإنّما فضل اللفظ عن المعنى : أن تزيد الدّلالة بمعنى على معنى ، فتدخل في أثناء ذلك شيئا لا حاجة بالمعنى المدلول عليه إليه. وكذلك السبيل في «السّبك والطّابع» وأشباههما ، لا يحتمل شيء من ذلك أن يكون المراد به «اللّفظ» من حيث هو لفظ.
فإن أردت الصدق ، فإنّك لا ترى في الدنيا شأنا أعجب من شأن الناس مع «اللفظ» ، ولا فساد رأي مازج النفوس وخامرها واستحكم فيها وصار كإحدى طبائعها ، من رأيهم في «اللفظ». فقد بلغ من ملكته لهم وقوّته عليهم ، أن تركهم وكأنهم إذا نوظروا فيه أخذوا عن أنفسهم ، وغيّبوا عن عقولهم ، وحيل بينهم وبين أن يكون لهم فيما يسمعونه نظر ، ويرى لهم إيراد في الإصغاء وصدر ، فلست ترى إلا نفوسا قد جعلت ترك النّظر دأبها ، ووصلت بالهوينا أسبابها ، فهي تغترّ بالأضاليل وتتباعد عن التحصيل ، وتلقي بأيديها إلى الشّبه ، وتسرع إلى القول المموّه.
ولقد بلغ من قلّة نظرهم أن قوما منهم لما رأوا الكتب المصنّفة في اللّغة قد شاع فيها أن توصف الألفاظ المفردة بالفصاحة ، ورأوا أبا العباس ثعلبا قد سمّى كتابه «الفصيح» (١) ، مع أنه لم يذكر فيه إلّا اللغة والألفاظ المفردة ، وكان محالا إذا قيل : إن «الشّمع» بفتح الميم ، أفصح من «الشّمع» بإسكانه ، وأن يكون ذلك من أجل المعنى ، إذ ليس تفيد الفتحة في الميم شيئا في الذي سمّي به سبق إلى قلوبهم أنّ حكم الوصف بالفصاحة أينما كان وفي أيّ شيء كان ، أن لا يكون له مرجع إلى المعنى البتّة ، وأن يكون وصفا للّفظ في نفسه ، ومن حيث هو لفظ ونطق لسان ولم يعلموا أن المعنى في وصف الألفاظ المفردة بالفصاحة ، أنها في اللّغة أثبت ، وفي استعمال الفصحاء أكثر.
أو أنها أجرى على مقاييس اللغة والقوانين التي وضعوها ، وأنّ الذي هو معنى «الفصاحة» في أصل اللغة ، هو الإبانة عن المعنى ، بدلالة قولهم : «فصيح» و «أعجم» ،
__________________
(١) كتاب في الأدب واللغة لثعلب النحوي المتوفى سنة (٢٩١ ه) ، وله شروح كثيرة منها شرح المبرد ، كشف الظنون (٢ / ١٢٧٢).