ولا يصحّ أن تقع الاستعارة فيه إلا على المعنى. وذلك ما كان مثل «اليد» في قول لبيد : [من الكامل]
وغداة ريح قد كشفت وقرّة ، |
|
إذ أصبحت بيد الشّمال زمامها (١) |
ذاك أنه ليس هاهنا شيء يزعم أنّ شبهه باليد ، حتى يكون لفظ «اليد» مستعارا له ، وكذلك ليس فيه شيء يتوهّم أن يكون قد شبّهه بالزمام ، وإنما المعنى على أنه شبه «الشّمال» في تصريفها «الغداة» على طبيعتها ، بالإنسان يكون زمام البعير في يده ، فهو يصرّفه على إرادته ، ولما أراد ذلك جعل للشّمال يدا ، وعلى الغداة زماما. وقد شرحت هذا قبل شرحا شافيا.
وليس هذا الضّرب من الاستعارة بدون الضرب الأول في إيجاب وصف «الفصاحة» للكلام ، لا بل هو أقوى منه في اقتضائها. والمحاسن التي تظهر به ، والصّور التي تحدث للمعاني بسببه ، آنق وأعجب. وإن أردت أن تزداد علما بالذي ذكرت لك من أمره ، فانظر إلى قوله : [من الرجز]
سقته كفّ اللّيل أكواس الكرى (٢)
وذلك أنه ليس يخفى على عاقل أنه لم يرد أن يشبّه شيئا بالكفّ ، ولا أراد ذلك في «الأكواس» ، ولكن لما كان يقال : «سكر الكرى» ، و «سكر النوم» ، استعار للكرى «الأكواس» ، كما استعار الآخر «الكاس» في قوله : [من البسيط]
وقد سقى القوم كأس النّعسة السّهر (٣)
ثمّ إنه لمّا كان الكرى يكون في الليل ، جعل الليل ساقيا ، ولما جعله ساقيا جعل له كفّا ، إذ كان السّاقي يناول الكأس بالكفّ.
ومن اللّطيف النادر في ذلك ، ما تراه في آخر هذه الأبيات ، وهي للحكم بن قنبر : [من الطويل]
ولو لا اعتصامي بالمنى كلّما بدا |
|
لي اليأس منها ، لم يقم بالهوى صبري |
ولو لا انتظاري كلّ يوم جدى غد ، |
|
لراح بنعشي الدّافنون إلى قبري |
__________________
(١) سبق ص (٢٧٨) هامش (٢).
(٢) أكؤس : جمع الكأس ، وفي مطبوعة الشيخ محمود شاكر : أكواس.
(٣) البيت لأبي دهبل الجمحي ، وهو في ديوانه.