لا يكون في حروفه ما يثقل على اللسان ، لأنه لو كان يصحّ ذلك ، لكان يجب أن يكون السّوقيّ الساقط من الكلام ، والسفساف الرّديء من الشعر ، فصيحا إذا خفّت حروفه.
وأعجب من هذا ، أنّه يلزم منه أن لو عمد عامد إلى حركات الإعراب فجعل مكان كلّ ضمّة وكسرة فتحة فقال : «الحمد لله» ، بفتح الدال واللام والهاء ، وجرى على هذا في القرآن كلّه ، أن لا يسلبه ذلك الوصف الذي هو معجز به ، بل كان ينبغي أن يزيد فيه ، لأنّ الفتحة كما لا يخفى أخفّ من كلّ واحدة من الضمة والكسرة.
فإن قال : إن ذلك يحيل المعنى.
قيل له : إذا كان المعنى والعلّة في كونه معجزا خفّة اللّفظ وسهولته ، فينبغي أن يكون مع إحالة المعنى معجزا ، لأنه إذا كان معجزا لوصف يخصّ لفظه دون معناه ، كان محالا أن يخرج عن كونه معجزا ، مع قيام ذلك الوصف فيه.
ودع هذا ، وهب أنه لا يلزم شيء منه ، فإنه يكفي في الدلالة على سقوطه وقلّة تمييز القائل به ، أنه يقتضي إسقاط «الكناية» و «الاستعارة» و «التمثيل» و «المجاز» و «الإيجاز» جملة ، واطّراح جميعها رأسا ، مع أنها الأقطاب التي تدور البلاغة عليها ، والأعضاد التي تستند الفصاحة إليها ، والطّلبة التي يتنازعها المحسنون ، والرّهان الذي تجرّب فيه الجياد ، والنّضال الذي تعرف به الأيدي الشّداد ، وهي التي نوّه بذكرها البلغاء ورفع من أقدارها العلماء ، وصنّفوا فيها الكتب ، ووكّلوا بها الهمم ، وصرفوا إليها الخواطر ، حتّى صار الكلام فيها نوعا من العلم مفردا ، وصناعة على حدة ، ولم يتعاط أحد من الناس القول في الإعجاز إلا ذكرها وجعلها العمد والأركان فيما يوجب الفضل والمزيّة ، وخصوصا «الاستعارة» و «الإيجاز» ، فإنّك تراهم يجعلونهما عنوان ما يذكرون ، وأوّل ما يوردون.
وتراهم يذكرون من «الاستعارة» قوله عزوجل : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) [مريم : ٤] ، وقوله : (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) [البقرة : ٩٣] ، وقوله عزوجل : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) [يس : ٣٧] ، وقوله عزوجل : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) [الحجر : ٩٤] ، وقوله : (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا) [يوسف : ٨٠] ، وقوله تعالى : (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها)(١) [محمد : ٤] ، وقوله : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) [البقرة : ١٦].
__________________
(١) أوزار الحرب : أسلحتها : قال الأعشى :
وأعددت للحرب أوزارها |
|
رماحا طوالا وخيلا ذكورا |
وقيل الأوزار : أثقال الشهداء لأنه عزوجل يمحّصهم من الذنوب.