ومن «الإيجاز» قوله تعالى : (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ)(١) [الأنفال : ٥٨] ، وقوله تعالى : (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) [فاطر : ١٤] ، وقوله : (فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ)(٢) [الأنفال : ٥٧] ، وتراهم على لسان واحد في أن «المجاز» و «الإيجاز» من الأركان في أمر الإعجاز.
وإذا كان الأمر كذلك عند كافّة العلماء الذين تكلّموا في المزايا التي للقرآن ، فينبغي أن ينظر في أمر الذي يسلم نفسه إلى الغرور ، فيزعم أنّ الوصف الذي كان له القرآن معجزا ، هو سلامة حروفه مما يثقل على اللسان ، أيصحّ له القول بذلك إلّا من بعد أن يدّعي الغلط على العقلاء قاطبة فيما قالوه ، والخطأ فيما أجمعوا عليه؟ وإذا نظرنا وجدناه لا يصحّ له ذلك إلّا بأن يقتحم هذه الجهالة ، اللهم إلّا أن يخرج إلى الضّحكة فيزعم مثلا أن من شأن «الاستعارة» و «الإيجاز» إذا دخلا الكلام ، أن يحدث بهما في حروفه خفة ، وتتجدّد فيها سهولة ، ونسأل الله تعالى العصمة والتوفيق.
واعلم أنّا لا نأبى أن تكون مذاقة الحروف وسلامتها مما يثقل على اللسان داخلا فيما يوجب الفضيلة ، وأن تكون مما يؤكّد أمر الإعجاز ، وإنما الذي ننكره ونفيّل رأي من يذهب إليه ، أن يجعله معجزا به وحده ، ويجعله الأصل والعمدة ، فيخرج إلى ما ذكرنا من الشناعات.
ثم إنّ العجب كلّ العجب ممن يجعل كلّ الفضيلة في شيء هو إذا انفرد لم يجب به فضل البتّة ، ولم يدخل في اعتداد بحال. وذلك أنّه لا يخفى على عاقل أنه لا يكون بسهولة الألفاظ وسلامتها مما يثقل على اللسان اعتداد ، حتى يكون قد ألف منها كلام ، ثم كان ذلك الكلام صحيحا في نظمه والغرض الذي أريد به ، وأنه لو عمد عامد إلى ألفاظ فجمعها من غير أن يراعي فيها معنى ، ويؤلّف منها كلاما ، لم تر عاقلا يعتدّ السهولة فيها فضيلة ، لأن الألفاظ لا تراد لأنفسها ، وإنما تراد لتجعل أدلّة على المعاني. فإذا عدمت الذي له تراد ، أو اختلّ أمرها فيه ، لم يعتدّ بالأوصاف التي تكون في أنفسها عليها ، وكانت السهولة وغير السهولة فيها واحدا.
ومن هاهنا رأيت العلماء يذمّون من يحمله تطلّب السّجع والتجنيس على أن
__________________
(١) أي : إن كان بينك وبين قوم هدنة فخفت منهم نقضا للعهد فلا تبادر إلى النقض حتى تلقي إليهم أنك قد نقضت ما بينك وبينهم ؛ فيكونوا معك في علم النقض والعود إلى الحرب مستوين.
(٢) يقال : شرد البعير : نفر والتشريد : الطّرد. والمعنى : أي : فرّق وبدّد جمعهم وقيل : فزّع بهم من خلفهم.