فينحل اللّفظ ما ليس له ، ولا تزال ترى الشّبهة قد دخلت عليك في الكلام قد حسن من لفظه ونظمه ، فظننت أن حسنه ذلك كلّه للّفظ منه دون النظم.
مثال ذلك : أن تنظر إلى قول ابن المعتز : [من الطويل]
وإنّي على إشفاق عيني من العدى |
|
لتجمح منّي نظرة ثمّ أطرق (١) |
فترى أنّ هذه الطّلاوة وهذا الظرف ، إنما هو لأن جعل النّظر «يجمح» وليس هو لذلك ، بل لأن قال في أول البيت «وإنّي» حتى دخل اللّام في قوله «لتجمح» ، ثم قوله : «منّي» ثم لأن قال «نظرة» ولم يقل «النّظر» مثلا ، ثم لمكان «ثم» في قوله : «ثم أطرق» ، وللطيفة أخرى نصرت هذه اللطائف ، وهي اعتراضه بين اسم «إن» وخبرها بقوله : «على إشفاق عيني من العدى».
وإن أردت أعجب من ذلك فيما ذكرت لك ، فانظر إلى قوله ، وقد تقدم إنشاده قبل : [من البسيط]
سالت عليه شعاب الحيّ حين دعا |
|
أنصاره بوجوه كالدّنانير (٢) |
فإنك ترى هذه الاستعارة ، على لطفها وغرابتها ، إنما تمّ لها الحسن وانتهى إلى حيث انتهى ، بما توخّى في وضع الكلام من التقديم والتأخير ، وتجدها قد ملحت ولطفت بمعاونة ذلك ومؤازرته لها. وإن شككت فاعمد إلى الجارّين والظرف ، فأزل كلّا منها من مكانه الذي وضعه الشاعر فيه ، فقل : «سالت شعاب الحيّ بوجوه كالدنانير عليه حين دعا أنصاره» ، ثم انظر كيف يكون الحال ، وكيف يذهب الحسن والحلاوة؟ وكيف تعدم أريحيّتك التي كانت؟ وكيف تذهب النّشوة التي كنت تجدها؟.
وجملة الأمر أن هاهنا كلاما حسنه للّفظ دون النظم ، وآخر حسنه للنظم دون اللفظ ، وثالثا قد أتاه الحسن من الجهتين ، ووجبت له المزيّة بكلا الأمرين. والإشكال في هذه الثالث ، وهو الذي لا تزال ترى الغلط قد عارضك فيه ، وتراك قد حفت فيه (٣) على النّظم ، فتركته وطمحت ببصرك إلى اللفظ ، وقدّرت في حسن كان به وباللّفظ ، أنه للّفظ خاصة. وهذا هو الذي أردت حين قلت لك : «إن في الاستعارة ما لا يمكن بيانه إلّا من بعد العلم بالنظم والوقوف على حقيقته».
__________________
(١) انظر ديوان ابن المعتز (١ / ٣٠٧).
(٢) تقدم تخريجه.
(٣) الحيف : الميل في الحكم والجور والظلم. اه اللسان مادة / حيف / (٩ / ٦٠).