ومثله في الوضوح قوله : [من الطويل]
وما أنا وحدي قلت ذا الشّعر كلّه (١)
«الشعر» مقول على القطع ، والنفي لأن يكون هو وحده القائل له.
وهاهنا أمران يرتفع معهما الشك في وجوب هذا الفرق ، ويصير العلم به كالضرورة.
أحدهما : أنه يصحّ لك أن تقول : «ما قلت هذا ، ولا قاله أحد من الناس» ، و «ما ضربت زيدا ، ولا ضربه أحد سواي» ، ولا يصحّ ذلك في الوجه الآخر. فلو قلت : «ما أنا قلت هذا ، ولا قاله أحد من الناس» ، و «ما أنا ضربت زيدا ، ولا ضربه أحد سواي» ، كان خلفا (٢) من القول ، وكان في التناقض بمنزلة أن تقول : «لست الضّارب زيدا أمس» ، فتثبت أنه قد ضرب ، ثم تقول من بعده : «وما ضربه أحد من الناس» ، و «لست القائل ذلك» ، فتثبت أنه قد قيل ، ثم تجيء فتقول و «ما قاله أحد من الناس».
والثاني : من الأمرين أنك تقول : «ما ضربت إلا زيدا» ، فيكون كلاما مستقيما ، ولو قلت : «ما أنا ضربت إلا زيدا» ، كان لغوا من القول ، وذلك لأن نقض النّفي ب «إلّا» يقتضي أن تكون ضربت زيدا ، وتقديمك ضميرك وإيلاؤه حرف النفي ، يقتضي نفي أن تكون ضربته ، فهما يتدافعان (٣). فاعرفه.
ويجيء لك هذا الفرق على وجهه في تقديم المفعول وتأخيره.
فإذا قلت : «ما ضربت زيدا» ، فقدمت الفعل ، كان المعنى أنك قد نفيت أن يكون قد وقع ضرب منك على زيد ، ولم تعرض في أمر غيره لنفي ، ولا إثبات ، وتركته مبهما محتملا.
__________________
(١) البيت للمتنبي في ديوانه (٢٣٧) من قصيدة يمدح فيها عليّا بن أحمد بن عامر الأنطاكي ، وتمامه :
ولكن لشعري فيك من نفسه شعر
والمعنى : يقول : أنا ما انفردت بعمل هذا الشعر ولكن شعري أعانني على مدحك لأنه أراد مدحك كما أردته.
(٢) الخلف : بفتح الخاء وسكون اللام الرديء من القول وبالضم الاسم من الإخلاف وهو أن تعد عدة ولا تنجزها ، القاموس / خلف / (١٠٤٢).
(٣) يتدافعان : تقول تدافعوا : أي دفع بعضهم بعضا ، القاموس / دفع / (٩٢٤).