بمجاورة الفرس والنبط ومداخلتهم إياهم ... انبعثت قرائحهم في الإجادة ، فقادوا محاسن الكلام ، بألين زمام ، وأحسنوا وأبدعوا ما شاءوا ، وكان أبو بكر الخوارزمي قد دوّخ الشام في صباه ولطالما قال وهو أحد أمراء النظم والنثر : ما فتق قلبي ، وشحذ فهمي ، وصقل ذهني ، وأرهف حدّ لساني ، وبلغ هذا المبلغ بي إلا تلك الطرائف الشامية ، واللطائف الحلبية، التي علقت بحفظي ، وامتزجت بأجزاء نفسي.
حكى المازني المتوفى سنة ٢٤٩ قال : دخلت دير بصرى فرأيت في رهبانه فصاحة وهم متنصرة من بني الصارد وهم أفصح من رأيت فقلت : ما لي لا أرى فيكم شاعرا مع فصاحتكم؟ فقالوا : والله ما فينا أحد ينطق بالشعر إلا أمة لنا كبيرة السن فقلت : جيئوني بها فجاءت فاستنشدتها فأنشدتني لنفسها :
أيا رفقة من دير بصرى تحملت |
|
تؤم الحمى لقيت من رفقة رشدا |
إذا ما بلغتم سالمين فبلغوا |
|
تحية من قد ظن أن لا يرى نجدا |
وقولوا تركنا الصارديّ مكبلا |
|
بكل هوى من حبكم مضمرا وجدا |
فيا ليت شعري هل أرى جانب الحمى |
|
وقد أنبتت أجراعه بقلا جعدا |
وهل أردن الدهر يوما وقيعة |
|
كأن الصبا يسدي على متنه بردا |
وما برحت الديارات في الشام تقدر الفصاحة كما تقام فيها للموسيقى أسواق. وظهر الضعف في الشعر خلال القرون الأخيرة ، ونسلت عليه القرون إلى أن خلع في أوائل هذا القرن الثوب البالي القديم ولبس ثوبا جديدا فيه من جلال الحديث وعز القديم ما جمع فيه الجسم والروح. بدأ هذا من لبنان وبيروت ثم تناول عامة مدن الشام. أما القرى والبوادي فقد اكتفت بالأزجال ، والزجل نوع من الشعر محدث يصفون فيه أيامهم ومفاخرهم وهو أشبه بالرجز الذي كانت العرب تترنم به في عملها وسوقها وتحدو به في بواديها. وكان للزجالين في القرن الماضي وفي هذا القرن منزلة عند أهل الزرع والضرع ، يدعون الزجال إلى الأفراح ليحمل البهجة إليها ، وإلى الأتراح ليسري عن النفوس ما نزل بها ، ولهم ضروب من المواليا يسمونها العتابى والإبراهيمي يطربون بها ولا تخلو من معان شعرية قال صديقنا الشيخ إبراهيم الحوراني وكان شاعرا مجيدا بالفصحى والعامية : والنصارى واليهود يعتقدون أن بعض الشعر إلهام إلهي ووحي حق كشعر أيوب