توسد إلى الجهلة بدعوى أن آباءهم كانوا علماء ، وهم يجب أن يرثوا وظائفهم ومناصبهم وإن كانوا جهلة ، كما ورثوا حوانيتهم وعقارهم وفرشهم وكتبهم. بل بلغت الحال بالدولة إذ ذاك أن كانت تولي القضاء للأميين ، وكم من أمي غدا في دمشق وحلب والقدس وبيروت قاضي القضاة ، أما في الأقاليم فربما كان الأميون أكثر من غيرهم ، لأن أخذ القضاء في دار الملك كان متوقفا على بذل شيء من الرّشى ، فيصل إليه أجهل الناس وبذلك فترت الهمم ، وانصرفت الرغبات عن تعلم علوم الدين ، لأن الجاهل والعالم سواء ، ومن يحسن المصانعة والرشوة ويمتّ إليهم بأسلوب من أساليب الشفاعة.
وأصبح الشعر عبارة عن شبكة يتعلم صاحبها نصبها ليتزلف بها إلى الكبراء وأرباب الدولة ، والشاعر كطبال أو زامر أو قرّاد يغني ويلعب أمام من يعطيه دريهمات قليلة. وهناك شبكة رسمية أخرى يصطاد بها المال وهي أن من حفظ قواعد النحو والصرف في كتب لهم معينة وانقطع إلى مدرسة من المدارس ، وجاز الامتحان ست سنين على أسلوب لهم مخصوص يعفى من الخدمة العسكرية ، فتعلم بذلك كثيرون ، ومن فهموا ما تعلموه جاء منهم بعض فقهاء وأدباء ، ثم أبطل ذلك في العقد الثاني من القرن الرابع عشر.
وبينا كانت مدارس العلم في حلب وحماة ودمشق وطرابلس والقدس وغيرها آخذة بالأفول والاندراس ، والمسلمون أو الذين خرجوا من الأمية بعض الشيء من أهل هذه الديار يولون وجوههم قبل المناصب الدينية والإدارية والعسكرية ، كان إخوانهم المسيحيون يتعلمون في مدارس نظامية في الجملة ، جعلت تدريس العربية وآدابها واللغات الحية أول بند من منهاج الدراسة فيها ، فجاء من أبنائهم ومن أخذ العلم عنهم من سائر الطوائف جماعات يذكرون في التاريخ بحسن بلائهم في خدمة الآداب ، ومنهم أفراد نزحوا إلى مصر واميركا وتولوا الأعمال الكبرى وأظهروا آثار قرائحهم ونبوغهم ولا سيما في القرن التالي ، وبطلت القاعدة التي كان وضعها بعض ضعاف النظر من تقبيح نحو النصارى وغناء اليهود ، فأصبح بالتعلم من النصارى نحاة ثقات ، ومن اليهود مغنون ومغنيات ، أي أن الزمن أبطل ذاك الزعم.