بينما المنصور ذات يوم يخطب وقد علا بكاؤه إذ قام رجل فقال : يا وصّاف ، تأمر ما تحتقبه (١) ، وتنهى عمّا ترتكبه ، بنفسك فابدأ ثم بالناس ، فنظر إليه المنصور وتأمّله مليا وقطع الخطبة ثم قال : يا عبد الجبّار خذه إليك ، فأخذه عبد الجبّار وعاد إلى خطبته حتى أتمّها وقضى الصلاة ، ثم دخل ودعا بعبد الجبّار فقال له : ما فعل الرجل؟ قال : محبوس عندنا يا أمير المؤمنين ، قال : امل له ثم عرّض له بالدنيا ، فإن صدف عنها وقلاها [فلعمري إنه مريد](٢) وإن كان كلامه ليقع موقعا حسنا ، وإن مال إلى الدنيا ، ورغب فيها إن لي فيه أدبا يزعه عن الوثوب على الخلفاء ، وطلب الدنيا بعمل الآخرة ، فخرج عبد الجبّار فدعا بالرجل ، وقد دعا بغدائه فقال له : ما حملك على ما صنعت؟ قال : حق لله كان في عنقي فأديته إلى خليفته ، قال : ادن فكل من هذا الطعام حتى يدعو بك أمير المؤمنين ، قال : لا حاجة لي فيه ، قال : وما عليك من أكل الطعام إن كانت نيتك حسنة فلا يفثأك (٣) عنها شيء فدنا فأكل ، فلما أكل طمع فيه ، فتركه أياما ثم دعاه فقال : لهي عنك أمير المؤمنين وأنت محبوس ، فهل لك في جارية تؤنسك وتسكن إليها؟ قال : ما أكره ذلك ، فأعطاه جارية ، ثم أرسل إليه : هذا الطعام قد أكلت والجارية قد أقبلت ، فهل لك في ثياب تلبسها وتلبس (٤) عيالك إن كان لك عيال ، ونفقة تستعين بها على أمرك إلى أن يدعو بك أمير المؤمنين؟ قال : ما أكره ذلك ، فأعطاه ثم قال له : ما عليك أن تصنع خلّة تبلغ بها الوسيلة من أمير المؤمنين إن أردت الوسيلة عنده إذا ذكرك؟ قال : وما هي؟ قال : أولّيك الحسبة والمظالم فتكون أحد عمّاله ، تأمر بمعروف وتنهى عن منكر ، قال : ما أكره ذلك ، فولّاه الحسبة والمظالم. فلما انتهى عليه شهر ، قال عبد الجبّار للمنصور : الرجل الذي تكلم بما تكلم به فأمرت بحبسه ، قد أكل من طعام أمير المؤمنين ، ولبس من ثيابه وعاش (٥) في نعمته.
قال القاضي : الصواب عندي وعاش في نعمته.
وصار أحد ولاته وإن أحبّ أمير المؤمنين أن أدخله إليه في زي الشيعة (٦) فعلت قال :
__________________
(١) الجليس الصالح : «تجتنبه» واحتقب فلان الإثم : كأنما جمعه واحتقبه من خلفه. واحتقبه : احتمله.
(٢) ما بين معكوفتين مضطرب بالأصل والمثبت عن الجليس الصالح.
(٣) فثأت عني فلانا فثأ إذا كسرته عنك ، وفثأ الشيء عنه : كفّه.
(٤) الجليس الصالح : تكتسيها وتكسو عيالك.
(٥) كذا بالأصل ، وفي المطبوعة : «وعاث» وفي الجليس الصالح الكافي : «وعان».
(٦) الأصل : «ذي الساعة» والمثبت عن الجليس الصالح الكافي.