وليس يمنعه من إدنائه وإظهار أمره إلّا لأمر يريده ، فلما رأى أبا (١) أيوب يحبسه عنه عنادا ، قال للخادم : اخرج إلى الديوان فجئني بفلان الغلام الذي كان يكتب بين يدي ، فإن بعث معك أبو أيوب بغيره فقل : لا ، أمرني أمير المؤمنين أن لا يدخل عليه غيره ، ففعل الخادم ذلك ، واستحق في قلب أبي أيوب ما حذره وحدثته به نفسه ، فقال الغلام : يا أمير المؤمنين ـ جعلني الله فداك ـ قد تعرّفت من أبي أيوب البغض والاستثقال بمكاني ، وله غوائل لا يحيط بها علمي ، وأنا أخافه على نفسي.
فقال له أبو جعفر : بارك الله عليك ، فما أخطأت الذي في نفسي ، وهذا كله (٢) قد جال (٣) في صدري ، فإذا كان غدا فتعرض لأن يغلظ لك ، فإذا أغلظ لك فقم وانصرف كأنك مغضب ، ولا تعد إلى الديوان واجعل وجهك إلى أمّك ، وأوصل إليها هذا العقد وهذا الكيس وكتابي هذا ، واحمل أمك ومن اتبعها من قرابتك ، وأقبل فانزل موضع كذا ، فإني منفذ إليك خادما يتفقد أمورك ويعرف خبرك ، ولا تطلعنّ أحدا من الخلق طالع (٤) ما معك ، وامض بهذا المال وهذا العقد وأحرزه (٥) أولا قبل رجوعك إلى الديوان ، ثم قال للخادم : أخرجه من باب كذا وكذا ، فخرج الغلام فأحرز ما كان معه ثم رجع إلى الديوان ، وأبو أيوب في فكره من احتباسه عند المنصور ، ورجع الغلام بوجهه بهج مسرور لا يخفى ذلك عليه ، وظهور الفرح في وجهه وشمائله ، فقال أبو أيوب : أحلف بالله لقد رجع هذا الغلام بغير الوجه الذي مضى به ، ولقد دار بينه وبين أمير المؤمنين من ذكري ما سرّه ، فاستشعر الوحشة منه وصرف أكثر (٦) عمله عنه ، ثم لم يلبث أن أغلظ له ، فقال الغلام : أنا إنسان غريب أطلب الرزق ، وأنت تستخف بي ، فكأني قد ثقلت عليك ، فانتحي عنك قبل أن تطردني ، ثم قام فانصرف وافتقده أبو أيوب أياما ، ورأى أن أبا جعفر لا يسأل عنه ولا يذكره ، ثم إنّ نفس أبي أيوب نازعته إلى علم حقيقة خبره ، فأرسل من يسأل عنه في الموضع الذي كان نازلا به ، فقيل له : إنه قد تهيّأ للسفر ، وتجهّز جهازا حسنا وشخص إلى أهله بالموصل ، فقال أبو أيوب في نفسه : وأين له ما يتجهّز به؟ كم مبلغ ما ارتزق معي ، وارتفق (٧) به؟ لهذا الأمر نبأ ، وجعلت نفسه : تزداد وحشة
__________________
(١) الأصل : أبي.
(٢) بعدها في الجليس الصالح : يا بني.
(٣) في المطبوعة : حاك.
(٤) الجليس الصالح : طلع.
(٥) أي احفظه وصنه ، ولا تمكّن أحدا من أخذه.
(٦) عن الجليس الصالح وبالأصل : أكبر.
(٧) أي انتفع واستعان.