وثلاثة آلاف فرنجي كانوا معه ، وبقي ابنه صغيرا مع أمه بأنطاكية ، وتزوجت بابرنس آخر فخرج نور الدين في بعض غزواته فأسر الإبرنس الثاني وتملك أنطاكية ابن الأبرنس الأول وهو بيمنت ووقع في أسره في نوبة حارم (١) وباعه نفسه بمال عظيم أنفقه في الجهاد.
وأظهر بحلب السنة حتى أقام شعار الدين ، وغيّر البدعة التي كانت لهم في التأذين ، وقمع بها الرافضة المبتدعة ، ونشر فيها مذاهب أهل السنّة الأربعة ، وأسقط عنهم جميع المؤن ، ومنعهم من التوثب في الفتن ، وبنى بها المدارس ووقف الأوقاف ، وأظهر فيها العدل والإنصاف.
وقد كان صالح المعين الذي كان بدمشق وصاهره ، واجتمعت كلمتهما على العدو لمّا وازره ، وحاصر دمشق مرتين ، فلم يتيسر له فتحها ، ثم قصدها الثالثة فتمّ له صلحها ، وسلّم أهلها إليه البلد لغلاء الأسعار والخوف من استعلاء كلمة الكفار ، فضبط أمورها ، وحصّن سورها ، وبنى بها المدارس والمساجد ، وأفاض على أهلها الفوائد ، وأصلح طرقها ، ووسع أسواقها ، وأدرّ الله على رعيته ببركته أرزاقها ، وبطل منها الأنزال ، ورفع (٢) عن أهلها الأثقال ، ومنع ما كان يؤخذ منهم من المغارم كدار بطّيخ وسوق البقل ، وضمان النهر ، والكيالة ، وسوق الغنم ، وغير ذلك من المظالم ، وأمر بترك ما كان يؤخذ على الخمر من المكس ، ونهى عن شربه ، وعاقب عليه بإقامة الحدّ والحبس واستنقذ من العدو ـ خذلهم الله ـ ثغر بانياس وغيره من المعاقل المنيعة كالمنيطرة (٣) وغيرها بعد الإياس.
وبلغني أنه في الحرب رابط الجأش ، ثابت القدم ، شديد الانكماش ، حسن الرمي بالسهام ، صليب الضرب عند ضيق المقام ، يقدم أصحابه عند الكره ، ويحمي منهزمهم عند الفرّة ، ويتعرض بجهده للشهادة لما نرجو بها من كمال السعادة.
ولقد حكى عنه بعض من خدمه مدة ، ووازره على فعل الخير ، أنه سمعه يسأل الله أن يحشره من بطون السباع وحواصل الطير ، فالله يقي مهجته من الأسواء ويحسن له الظفر بجميع الأعداء ، فلقد أحسن إلى العلماء وأكرمهم ، وقرّب المتدينين واحترمهم ، وتوخّى العدل في الأحكام والقضايا ، وألان كنفه ، وأظهر رأفته بالرعاية ، وبنى في أكثر مملكته آدر العدل
__________________
(١) حارم : حصن تجاه أنطاكية من أعمال حلب (معجم البلدان).
(٢) بالأصل : دفع ، والمثبت عن م و «ز».
(٣) المنيطرة : حصن بالشام قريب من طرابلس (معجم البلدان).